أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - قراءات في عالم الكتب و المطبوعات - كاظم حبيب - بعض إشكاليات المرحلة الجديدة في العراق















المزيد.....



بعض إشكاليات المرحلة الجديدة في العراق


كاظم حبيب
(Kadhim Habib)


الحوار المتمدن-العدد: 703 - 2004 / 1 / 4 - 12:22
المحور: قراءات في عالم الكتب و المطبوعات
    


مقدمة الطبعة الثانية**
برلين في أواخر عام 2003 
     سيطرت الهموم العراقية على كتاب بلادنا بمختلف اختصاصاتهم, وسواء أكانوا في الداخل أم الخارج, فكان البحث والاستقصاء واستطلاع الآراء حول واقع العراق وطريق للخلاص مما كان يعانيه الشعب العراقي من استبداد وجور وقهر وقسوة وغياب كامل للديمقراطية, هو أحد الأساليب المميزة والمتقدمة للتواصل مع الشعب وطرح الحلول والمعالجات المناسبة للأوضاع القاسية التي سادت العراق طيلة عقود. وكانت دراسة الباحث العلمي والكاتب والصديق والزميل الدكتور عبد الوهاب حميد رشيد من بين أبرز الدراسات العلمية القيمة في مجال البحث النظري والتطبيقي حول المشكلات الرئيسية التي كان وما يزال يعاني منها الشعب العراقي. ان نتيجة البحث والاستقصاء واستطلاع الرأي في هذا الكتاب يستحق وضعه للمرة الثانية بين أيدي قارئات وقراء العربية في كل مكان. ومنذ البدء سجل الدكتور عبد الوهاب في مقدمته أطروحاته الثلاث التي يعتمدها في البحث العلمي, الذي دأب على ممارسته طيلة ثلاثة عقود منصرمة, في تشريح الواقع العراقي واستشراف المستقبل, متضمنة1:      
الأولى: رفض العنف بكافة أشكاله وصوره...وقبول قرار الأغلبية واحترام رأي الاقلية..
الثانية: تبني الخيار السلمي وبناء إرادة الحرية لدى الناس أسلوباً وحيداً للتعامل السياسي وتأكيد قرار الأغلبية ...
الثالثة: الدعوة لاعتماد التنمية المستقلة المعتمدة على النفس والموجهة نحو الداخل لتعبئة الناس والموارد الوطنية, والقائمة على تلبية الاحتياجات الأساسية للأغلبية من منظور متطور..."[i].
 
     هذه المقدمة المكثفة تعطي الرؤية الثاقبة للكاتب حول الواقع العراقي ومشكلات تقدمه اللاحق وسبل خلاصه من الاستبداد وتأمين القواسم المشتركة بين مختلف القوى السياسية العراقية على أساس من الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان والاحترام والثقة المتبادلة. ومن هنا أحاول البدء بكتابة مقدمتي في التعريف المختصر بالكتاب, إذ أنه لا يحتاج إلى تعريف, كما أحاول إملاء الفجوة بين صدور الكتاب في عام 1997 والوقت الحاضر, رغم أن استشراف الكتاب يمتد إلى الوقت الحاضر ومستقبل العراق المنشود.   
     كان الشعب العراقي بكل قومياته وأديانه ومذاهبه واتجاهات الفكرية والسياسية الوطنية يتطلع إلى الخلاص من الاستبداد الذي دام طوال عقود من الزمن والذي وضع العراق وشعبه وموارده رهينة القرارات الدولية والولايات المتحدة بشكل خاص. ولم يبق من الاستقلال والسيادة الوطنية سوى هلالة شفافة لا تستر من عورات النظام الدكتاتوري شيئاً, بل تكشف عن نظام مطلق مرغ جباه الشعب العراقي بالتراب وزجهم في حروب متتالية وعرضهم للخراب والدمار والجوع والحرمان والموت والكثير الكثير من المقابر الجماعية, كما هدد الوحدة الوطنية بالصميم. وكان تطلع الشعب العراقي مقروناً بنضال مستديم للخلاص من ذلك الواقع المأساوي, قدم فيه أغلى التضحيات بشرياً ومادياً وحضارياً.
     لم ينعم العراق طيلة مئات السنين بالحرية ولم يذق طعم الديمقراطية ولم يتمتع بحقوقه المشروعة. فمن هيمنة أجنبية, عثمانية وفارسية, إلى سيطرة استعمارية بريطانية في ظل نظام ملكي إقطاعي غير ديمقراطي وخاضع للإرادة الأجنبية. ولم ينعم بثورة تموز 1958 إلا لفترة قصيرة, إذ سقط بعدها من جديد في دوامة وخضم الصراعات غير الحضارية والاستبداد والحروب الداخلية وذاق طعم الهزيمة أمام الاستبداد والقسوة والعذاب. وكانت العقود الأخيرة أكثرها مرارة وحرماناً وقسوة على الغالبية العظمى من الشعب العراقي ولم تنعم سوى تلك النخبة القليلة الحاكمة في البلاد التي تسببت في كل ما يعانيه العراق حالياً.
     كان تطلع الشعب العراقي يستهدف الخلاص من النظام الدكتاتوري عبر نضاله ونضال الأحزاب والقوى السياسية العراقية المناهضة للاستبداد والقسوة والملتزمة بالحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان, ولم يكن يحلم يوماً أن يتحرر من النظام الدموي عبر الحرب وعلى أيدي قوات القطب الأوحد ليقع تحت احتلال الولايات المتحدة الأمريكية التي ندرك أسباب شن هذه الحرب كما ندرك طبيعة دموية النظام الذي عاش الشعب تحت وطأنه, ثم يصدر بذلك قراراً عن مجلس الأمن الدولي ليمنح الحرب عملياً صفة الشرعية ويقر الاحتلال باعتباره أمراً واقعاً يلزم المحتلين بمسؤولية الحفاظ على الأمن والاستقرار وأرواح وسلامة العراقيين, رغم رفض العالم كله للحرب والاحتلال في ما عدا مجموعة صغيرة من الدول تقف على رأسها كل من الولايات المتحدة وبريطانيا.      لقد كان النظام الاستبدادي بسياساته العسكرية العدوانية ذات الأطماع التوسعية ومراوغاته البائسة وسقوط مصداقيته دولياً وإقليميا وعربياً ُأولاً, وقبل كل شيء من جهة, ورغبة الولايات المتحدة الأمريكية في تحقيق استراتيجيتها الدولية والهيمنة على المنطقة والكثير من الأهداف الاستراتيجية الأخرى من جهة ثانية, وإحساس مجموعة كبيرة من قوى المعارضة السياسية العراقية وأوساطاً واسعة من الشعب العراقي بعجزها عن تحقيق النصر على العدو الداخلي- النظام الاستبدادي من جهة ثالثة, وضعف قوى السلام والديمقراطية في العالم من جهة رابعة, قد لعبت دورها في وقوع الحرب واحتلال العراق.
      وجدير بالإشارة إلى أن انهيار النظام تحت ضربات قوات التحالف الأمريكي - البريطاني كان معروفاً مسبقاً, بسبب التباين الشديد في موازين القوى والقدرات العسكرية وعزلة النظام عن الشعب العراقي ورفضه له ورغبته الجامحة في الخلاص منه, وكانت الفرحة في التخلص منه, بغض النظر عن الطريقة التي تمت بها, متوقعة أيضاً. ولكن الشعب فوجئ بفرض الاحتلال وبالطريقة التي عالج بها المحتلون الأمور في العراق, وهي التي يرفضها الشعب بشكل عام. وهي التي تتسبب في الفوضى الراهنة وسيل الدماء الذي لم ينقطع. كلنا يعرف بأن الحرب لا تحل المشكلات بل تزيدها تعقيداً وتخلق معها مشاكل جديدة. إلا أن الصقور الأمريكية الجديدة, صقور السياسة الليبرالية الجديدة والمحافظين الجدد هم الذين يعتقدون بضرورة ممارسة الحرب أيضاً لتحقيق الغايات المنشودة, لخلق الإمبراطورية العالمية الجديدة, إمبراطورية القرن الحادي والعشرين.   
     الاحتلال ليس نهاية التاريخ وسيتخلص منه الشعب العراقي عاجلاً أم آجلاً, ولكن ما يفترض التخلص منه أيضاً هو الفوضى الراهنة وانعدام الأمن والاستقرار وعمليات التخريب والقتل الواسعة التي شملت السكان الآمنين. وهي التي تعطل عملية التعجيل بإنهاء الاحتلال. والقوى التي تقوم بهذه العمليات هي من فلول النظام العراقي السابق ومن قوى الإسلام السياسي المتطرفة وليست من قوى الشعب التي كانت تناضل ضد الاستبداد والقسوة. إذ أن الشعب العراقي يتطلع حالياً إلى إحلال الأمن والاستقرار لينجز بسرعة مهمات مرحلة الانتقال للخلاص من الاحتلال الأجنبي واستعادة الاستقلال والسيادة الوطنية واستقلال القرار السياسي والاقتصادي العراقي. وهي عملية معقدة بطبيعة الحال. إلا أن العراق لا يمكنه معالجة أموره إلا بمعالجة تناقضاته وصراعاته تباعاً بأخذ الأهم على المهم وصولاً إلى التخلص الفعلي والنهائي من الاحتلال العسكري والسياسي والاقتصادي.
     خضع الواقع العراقي لدراسة عدد كبير من الباحثين العلميين والكتاب والصحفيين في مختلف شؤون الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والعسكرية والثقافية والبيئية, وقدمت في هذا الشأن خدمة كبيرة لنضال الشعب العراقي. وكان من بين ابرزهم الدكتور عبد الوهاب حميد رشيد. وكانت هناك خمس إشكاليات عراقية تضغط بثقلها السياسي والاقتصادي والاجتماعي والنفسي على الدكتور رشيد وتدفع به إلى البحث والاستقصاء, إذ كان وما يزال يسعى للإجابة عن الأسئلة التي تنبثق عن تلك الإشكاليات, وكان يريد أن يشرك العراقيات والعراقيين في معالجة هذه الإشكاليات والإصغاء إلى أصواتهم وأرائهم حول مختلف المشكلات التي يعاني منها العراق عبر استطلاع الرأي, رغم المتاعب الكثيرة التي تعرض لها والفترة التي استغرقها الاستطلاع, ولكنها كانت معروفة سلفاً بالنسبة للباحث العلمي والكاتب الدكتور رشيد عندما صمم على خوض هذا الحقل من البحث العلمي التطبيقي. فاستطلاع رأي جمهرة كبيرة من العراقيين يعيشون في المنفى وموزعين على عشرات الدول ليست بالعملية السهلة. وأعني بتلك الإشكاليات ما يلي:
1- إن الاستبداد المطلق بكل أشكاله وممارسة القمع والاضطهاد والقتل والتمييز والمقابر الجماعية ...الخ لا يمكن أن تنسجم بأي حال مع تنفيذ عملية تنمية اقتصادية وبشرية جادة, ولا يمكن أن تحقق الرفاه للمجتمع, بل تزيد من ويلات المجتمع ومصائبه ومحنه وتدفع بالمجتمع إلى هاوية لا قرار لها. وتجربة العراق خلال القرن العشرين, وبشكل خاص خلال العقود الأربعة الأخيرة, خير دليل على ذلك.   
2- وأن سبل الوصول إلى تكريس الحرية والديمقراطية في ربوع الوطن والتخلي بشكل كامل وتام عن سياسة العنف والعنف المضاد والوصول إلى ضمان سيادة القانون الديمقراطي والتعددية السياسية وتكريس التداول الديمقراطي البرلماني السلمي للسلطة والتخلي عن النهج الشوفيني في العلاقات بين القوميات ومنحها حقوقها الكاملة غير المنقوصة وممارسة التوزيع وإعادة التوزيع العقلاني والعادل للدخل القومي هو الطريق الضامن لتطور البلاد وازدهار المجتمع.
3- وأن سبل الوصول إلى تنمية اقتصادية واجتماعية معتمدة على الذات وغير مغلقة على العالم مع الاحتفاظ باستقلال القرار الاقتصادي العراقي هو الذي يقود إلى أن يلعب المجتمع دوراً فعالاً في مجمل العملية السياسية والاقتصادية في البلاد, باعتباره هدف وأداة هذه التنمية.
4- ثمً يطرح الكاتب, في ضوء استقصاء واستطلاع الرأي, السبيل الذي يراه مناسباً لنشر الفكر الحرية والديمقراطي في صفوف الأحزاب والقوى السياسية العراقية لتتحول إلى أداة فعلية فاعلة في الحياة السياسية وفي التغيير الديمقراطي السلمي للعراق وضمان حقوق الشعب العراقي بكل قومياته وأديانه ومذاهبه واتجاهاته الفكرية والسياسية. ويؤكد بثقة عالية بأن التخلي الكامل عن العنف هو السبيل الوحيد لنشر وتكريس فكر الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان وممارستها فعلاً وهي الطريق لازدهار العراق وتقدمه.
5- وأخيراً يقدم الكاتب تصوره الصائب بصدد الأضرار التي تلحق الشعب العراقي والقوى السياسية العراقية في اعتمادها على القوى الخارجية, سواء أكان ذلك في عملية التنمية أو حل الإشكاليات السياسية والاقتصادية أو الخروج من مأزق النظام الدكتاتوري الذي ساد البلاد طوال عقود. 
     من هنا يتبين للقارئة والقارئ بأن مستقبل العراق وموضوع التنمية في ظل الديمقراطية وحرية الإنسان وحقوقه الأساسية وتغيير الوضع في العراق لصالح الديمقراطية ورفض العنف في كل الأحوال والسير على طريق التنمية المستقلة المعتمدة على الذات كان الشغل الشاغل والهم الأساس للدكتور عبد الوهاب حميد رشيد, الذي قدم قبل ذاك الكثير من الدراسات والكتب العلمية للمكتبة العربية. وكانت تحليلاته وتقديراته العلمية سليمةً وواقعيةً لطبيعة العلاقة المتناقضة بين الاستبداد والقسوة من جهة والاستقلال والديمقراطية والتنمية من جهة أخرى, إذ كتب يقول: "وفي ظروف تفاقم الرعب والاستبداد تجاه الشعب العراقي بكافة فئاته, واتخاذ القرارات المصيرية وفق نزعات فردية دكتاتورية, فقد تورطت البلاد في حروب مدمرة .. وبذلك لم تقف (جهود النظام) في القضاء المبرم على الحريات الأساسية, بل تعدتها إلى الانتقاص من سيادة البلاد وأمنها ووحدتها والتسبب في عزلتها وخنقها سياسياً واقتصادياً, وتعريض أهلها إلى مجاعة جماعية حقيقية, عبرت عنها منظمات ومؤسسات إنسانية – دولية وعربية - كونها "تراجيديا" و "فاجعة" و"كارثة" "[ii].  
     وكتب في مقدمة الكتاب يقول بوضوح لا لبس فيه ما يلي: "وينطلق البحث في هدفه تلمس سبل نهوض العراق من كبوته ورسم الملامح السياسية والاقتصادية الرئيسية لعراق المستقبل من نظرة تتوافق والمبادئ الوطنية والقومية.. في سياق فرضية مفادها: إن مشكلات ضياع فرص التنمية وهدر الإمكانيات العراقية ستبقى مستمرة طالما بقيت مظلة الاستبداد – بمفهومها الواسع - تغطي سقف المجتمع العراقي ..."[iii]. لقد سجل هذه التقديرات والآراء قبل حرب الخليج الثالثة وسقوط النظام العراقي بسنوات.  
ويؤكد الباحث بأن العنف لا يمكن أن يكون الطريق السليم والعقلاني للوصول إلى بناء الحرية والديمقراطية والمجتمع المدني في العراق وتحقيق الإصلاحات الديمقراطية إذ كتب يقول: "الإصلاحات الديمقراطية تتطلب أولاً رفض العنف بكافة أشكاله وصوره .. لأن العنف يحمل بذور جريمتين مزدوجتين: أولاهما – امتهان كرامة الإنسان ليصل في صورته القصوى إلى القتل..., وثانيهما – أن العنف هو أساس الاستبداد, بكل ما يحويه من ظلم وقهر ... لذلك فالعنف والديمقراطية لا يلتقيان ... فإما أن تكون ديمقراطياً تحترم آدمية مواطنك وتقبل بالحوار وترضخ لقرار الأغلبية وتستخدم الطريق السلمي للتعبير عن رأيك ونشره بين الناس على أساس الإقناع والقناعة وتتحمل التضحية في سبيل ذلك ... وإما أن تكون مستبداً بغض النظر عن موقعك..."[iv].
     ولكن الدكتور عبد الوهاب رشيد لا يكتفي بذلك, بل يؤكد على مسألة مركزية أخرى هي العلاقة بين الطريق السلمي للتغيير في العراق وبين بناء إرادة الحرية للفرد والمجتمع, إذ كتب يقول: "مهما كانت الخيارات والمبادرات التي ستقدم عليها الأطراف الوطنية المعنية بالقضية العراقية ... ومهما كانت نتائجها ... خاصة تلك الموجهة نحو الداخل من أجل خلق البديل الديمقراطي تحت مظلة الاستقلال السياسي ... فهذه الخيارات لن تستقيم إلا بمقدار قدرتها على بناء إرادة الحرية لدى الناس... لهذه الإرادة التي تشكل القاعدة الأساسية للنظام الديمقراطي والسياج الوطني لحفظ مسيرته, باعتبارها تجسد كسر حاجز الخوف من السلطة, ليس من منطلق العداء لها, بل من منطلق ربط الجزء بالكل ... أي إخضاع السلطة لقرارات الأغلبية"[v].
     من المؤلم حقاً أن يشار هنا إلى أن النظام السابق لم يترك مجالاً للقوى الوطنية العراقية أن تمارس سياسة سلمية لتغيير الوضع في العراق لصالح الحرية والديمقراطية, بل مارس كل الوسائل المتاحة لدية لتدميرها وزرع الإحباط لديها, مما خلق لدى البعض منها الشعور بعدم الثقة في قدرتها على التخلص من هذا النظام الاستبدادي والعمل على الاستعانة بالقوى الخارجية لإسقاط النظام. ولم يكن في كل الأحوال موقفاً حكيماً. كتب الدكتور رشيد يقول: "وإذا كان النظام الاستبدادي, عموماً, لن يتخلى عن العنف في التعامل مع الجماهير وقهرها حتى في ظل مسيرتها السلمية ... إلا أن التجارب التاريخية القليلة للنضال السلمي في سبيل الحرية تؤكد أن العنف سيتخلى عن هذا النظام عندما تتكامل إرادة الحرية للجماهير العراقية في إطار وحدتها الوطنية ... والحقيقة, يمكن القول بدرجة عالية من الثقة: إذا كتبت للديمقراطية أن تسود العراق فلن يكون بغير هذا الخيار!"[vi].
       إن إرادة الحرية كما هو معروف لا يمكن أن تبنى في ظل الاستبداد والإرهاب والقمع الموجه ضد الجماهير الواسعة والمتواصل يومياً وفي كل لحظة, إذ تغيب عن الساحة السياسية العراقية القدرة على المعارضة والتثقيف بعكس ما يريده الحاكم المستبد والموت لمن يخالف ذلك, وهذا ما حصل في العراق. إن وعي وإدراك وإرادة الحرية باعتبارها ضرورة لا مناص منها للمجتمع وسيادة الديمقراطية في الحكم وفي العلاقة مع الجماهير هي التي تبني الإرادة الحرة وإرادة الحرية للفرد والمجتمع. وبالتالي كان لا بد من التخلص من النظام الدكتاتوري ليفسح في المجال لإقامة المجتمع الحر والديمقراطي وبناء إرادة الحرية, إذ أن حرية الفرد هي الضمان والأساس لحرية المجتمع ولا يمكن أن تتحقق حرية المجتمع إلا عبر الحرية الفردية. ومن المؤلم أيضاً أن يتم هذا الإسقاط على أيدي قوة أجنبية وليس على أيدي عراقية وطنية, مما يعقد عملية التحول صوب الحرية والديمقراطية في ظل الاستقلال والسيادة الوطنية. وهو تعبير عن عجز المجتمع عن إنجاز المهمات التي كانت, وما تزال, ملقاة على عاتقه.  
     وأخيراً سقط النظام عبر الحرب وعبر قوى أجنبية, ونحن نعيش اليوم فوضى عارمة يمكن أن تهدأ فيما بعد, إلا أن طريق الحرب وطريق التدخل الخارجي لن يرسي دعائم قوية للحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان, ولا يعزز إرادة الحرية بسهولة, خاصة وأن الدولة التي قامت بذلك لا هم لها سوى تحقيق استراتيجيتها الدولية وهيمنتها على العالم وعلى موارد النفط في العراق ومنطقة الشرق الأوسط.          
     ندرك جميعاً بأن النظام العراقي السابق بسياساته الأمنية والاقتصادية والاجتماعية, والعسكرية وعلاقاته العربية والإقليمية والدولية قد تسبب في نشوء واقع مأساوي في العراق قبل شن حرب الخليج الثالثة. فعلى مدى ثلاثة عقود ونصف مارس النظام في العراق سياسة خاطئة وخطرة بالاتجاهات التالية:
* الاستبداد نحو الداخل وخلق دولة بوليسية جامحة ومصادرة الحريات الديمقراطية وحقوق الإنسان وفرض دور الحزب ومن ثم الفرد والفكر القومي الشوفيني الواحد على الدولة والمجتمع, وممارسة العنف لتصفية قوى المعارضة والرأي الآخر سياسياً وجسدياً.
* سياسة شوفينية معادية للقوميات الأخرى في العراق, وبشكل خاص ضد الشعب الكردي والأقليات القومية الأخرى.
* توجيه الموارد المالية النفطية لصالح التسلح والتفوق العسكري في المنطقة, ومنها السعي لامتلاك أسلحة الدمار الشامل. ووفق المعلومات المتوفرة فقد صرف النظام خلال الفترة الواقعة بين 1976-1990 مبلغاً قدره 253 مليار دولار أمريكي على الأغراض العسكرية[vii], في حين كان إيرادات النفط خلال هذه الفترة أقل بكثير من مصروفاته العسكرية. وكان لهذا الواقع تأثيره السلبي على المستوى المعيشي وعلى تنامي حجم البطالة في العراق وتراجع عملية التنمية وإلى تدهور شديد في معدلات النمو الاقتصادي.
إيرادات صادرات العراق من النفط ومصروفاته للأغراض العسكرية خلال الفترة 1976-
1990 بملايين الدولارات الأمريكية
السنة
إيرادات تصدير النفط الخام
مصروفات الأغراض العسكرية
1976
9.201
2.584
1977
9.560
2.700
1998
10.913
2.556
1979
21.382
3.235
1980
26.296
3.353
1981
10.422
14.007
1982
10.096
21.952
1983
7.816
28.596
1984
9.534
31.590
1985
10.685
23.506
1986
6.705
16.531
1987
11.416
17.073
1988
10.952
12.868
1989
14.500
10.720
1990
9.802
 9.268
 
 
200.539
المجموع
 
50.000
إجمالي المصروفات والإيرادات
179.308
250.539
المتوسط السنوي
11.954
16.720
SIPRI: Yearbook 1997. Armaments, Disarmament and International Security.
Stockholm International Peace Research Institute. Oxford University. Sweden.
 
* وتسببت تلك السياسات في ارتفاع المديونية الخارجية للعراق, إذ بلغت في الوقت الحاضر حوالي 130 مليار دولار أمريكي بما فيها الفوائد المترتبة عليها, إضافة إلى التعويضات التي يفترض دفعها على الدول التي تضررت بسبب تلك الحروب والتي تقدر بمبلغ يتراوح بين 320-350 مليار دولار أمريكي. وفي ضوء ذلك يكون العراق قد تحمل خسائر مالية هائلة جداً تقترب من تريليون دولار أمريكي خلال فترة حكم نظام البعث الصدامي.
* التوسع على حساب الدول المجاورة ومحاولة فض الخلافات بالعنف وشن الحروب والغزو العسكري, إذ أن الذهنية العسكرية وممارسة القوة والشعور بالعظمة قد تفاقمت لدى القيادة السياسية وخاصة لدى الدكتاتور الأول صدام حسين, إضافة إلى التشجيع الذي لقيه من مختلف بلدان العالم الغربية منها والشرقية, في تنشيط عملية التسلح وبناء القدرات العسكرية العراقية ذات الأغراض الهجومية وليست الدفاعية, وأقام ترسانة كبيرة جداً, كما اندفع نحو التصنيع العسكري المتعدد الجوانب, بما في ذلك محاولة إنتاج أسلحة الدمار الشامل ونجاحه في إنتاج الأسلحة الكيماوية والبايولوجية. وقد حققت الدول الصناعية المنتجة للأسلحة أرباحاً طائلة من مبيعاتها من الأسلحة, ولكنها ساهمت بموت مئات الآلاف من العراقيات والعراقيين نتيجة في الحب التي خاضها النظام وامتلاكه للأسلحة الفتاكة.أدت هذه السياسات, التي وجدت في فترات مختلفة السكوت أو حتى التأييد والدعم من جانب دول كبرى في المعسكرين خلال الحرب الباردة, وتأييد العديد من الدول العربية لأبرز جوانب سياساته, إلى أوخم العواقب على الاقتصاد والمجتمع العراقي, ومنها:
* انهيار اقتصادي وتعطل عملية إعادة الإنتاج بسبب تعطل أو تراجع إنتاج وتصدير النفط الخام وانخفاض حجم الإنتاج الصناعي والزراعي المحلي إلى 25 %  لفترة ما قبل حرب الخليج الأولى وتراجع معدل النمو من 11% عام 1979 إلى ناقص 6% في عام 2002, وتراوحت البطالة بين 60-65 % من القوى القادرة على العمل, وانخفض متوسط حصة الفرد الواحد من الدخل القومي من 4400 دولار أمريكي في عام 1979 إلى 400 دولار تقريباً في عام 2002/2003, وتراجعت مكانة المرأة ودورها في الاقتصاد والحياة العامة إلى مستوى ما قبل ثورة تموز عام 1958.          
* ممارسة السياسات الشوفينية والعنصرية التي كادت تؤدي إلى نشوء صراع بين العرب والكرد والأقليات القومية الأخرى بسبب سياسات النظام الشوفينية وتحت واجهة قومية عربية منحرفة ومتطرفة.
* ارتداد شديد في المجتمع نحو التقاليد والعادات والتماسك والعصبية العشائرية وتراجع عن قيم المجتمع المدني التي كانت في بدايات تكونها في لعراق.
* ارتداد كبير ومنحرف نحو التمسك بالمذهبية المتشددة والمتطرفة بمفهومها ومضمونها الطائفي المقيت والمبتذل, بسبب التمييز الذي مارسه الحكم إزاء الأديان والمذاهب المختلفة. وينبغي أن لا ينصرف الذهن إلى أن أتباع المذهب السني كانوا بخير ف ظل الدكتاتورية, بل كانت الغالبية منهم تعاني الأمرين, كما هو حال بقية بنات وأبناء الشعب, وأن الجماعة المستفيدة من النظام كانت قلة صغيرة من أتباع ومقربي الدكتاتور والقوى التي سخرها للدفاع عنه.      
* تفاقم عزلة النظام داخلياً وعربياً ودولياً, ولكنه وجد التأييد في المنطقة العربية بسبب إعلانه الشكلي بمناهضة سياسة إسرائيل والولايات المتحدة في المنطقة ودعمه اللفظي الفارغ للقضية الفلسطينية.
* فقدت قوى المعارضة العراقية الكثير من قدراتها الفعلية النضالية ضد النظام وخسرت الكثير من مواقعها في صفوف المجتمع, رغم تزايد قاعدة المعارضة للنظام, بسبب فقدان الناس الثقة بقدرتها على إسقاط النظام وخطابها السياسي المتخلف.
* وأصبح النظام عامل إرهاب نحو الداخل وعدم استقرار نحو الخارج, كما فُرض بعد حرب الخليج الثانية الحصار الاقتصادي الدولي على الشعب العراقي, الذي أنزل المزيد من الخسائر بالمجتمع والاقتصاد العراقي ولم يضعف الدولة البوليسية في اضطهادها للشعب, ولكنه أضعف قدرتها على مواجهة الحرب المحتملة من الخارج, والتي كانت الإدارة الأمريكية تحضّّر لها .
 * ومن الجدير بالإشارة أن الخسارة الأكثر فداحة للشعب العراقي كانت في قواه العاملة, إذ فقد خلال حكم البعث في العراق ما يقرب من مليون إنسان ممن قتل في الحرب أو استشهد على أيدي الآلة البوليسية الأمنية أو الحروب الداخلية التي خاضها النظام ضد الشعب الكردي في عمليات الأنفال وحلبجة وغيرها, أو عدوانه ضد الأهوار وعرب الوسط والجنوب, كما جرح وتعوق أكثر من نصف مليون إنسان, إضافة إلى 3 ملايين إنسان هجروا قسرا أو غادروا العراق مضطرين وتحت خشية السجن والتعذيب والتجنيد والموت, أو تحرياً عن لقمة العيش يحصلون عليها بحرية وكرامة. وكانت أعمار الغالبية العظمى منهم تتراوح بين 18-55 عاماًُ, أي في سن العمل والعطاء. ونسبة مهمة من هؤلاء القتلى والمعوقين والمفقودين كانت من خريجي المدارس المتوسطة والثانوية والكليات والمعاهد الفنية والمهنية المختلفة ومن العمال المهرة والفلاحين المنتجين, إضافة إلى المثقفين من كتاب وصحفيين وشعراء وفنانين وعلماء في مختلف الاختصاصات....الخ.  
     إن هذه الحقائق المشار إليها في أعلاه يضعها الباحث العلمي والكاتب الدكتور عبد الوهاب حميد رشيد نصب العين بأنها سببت الكوارث للشعب العراقي ومسخت حريته واستقلال بلاده وسمحت بالتدخل المستمر في شؤونه الداخلية, إذ أصبح الاقتصاد والمجتمع العراقي مكشوفين جداً على الخارج وأصبح الحصار الاقتصادي وإجراءات الأمم المتحدة بإرادة الإدارة الأمريكية أداة فعلية لهدر كرامة الإنسان العراقي وتشديد تحكم المستبدين به وإضعافه إزاء الخارج في آن واحد.
     كان الخلاص من النظام الدكتاتوري هو السبيل الوحيد لاستعادة العراق لوضعه الطبيعي مع الشعب في الداخل ومع الدول العربية والإقليمية ومع العالم. وكانت هناك مجموعة من الاحتمالات التي طرحها الدكتور عبد الوهاب حميد رشيد, إضافة إلى الكثير من الأفكار التي طرحت في هذا الصدد من باحثين آخرين عراقيين وغير عراقيين. إلا أن الواقع العراقي كان يشير إلى ثلاثة احتمالات أخرى مهمة, وهي:
الاولى: إن النظام العراقي لم يكن مستعداً وبأي حال من الأحوال عن التراجع عن سياساته الاستبدادية نحو الداخل وأطماعه التوسعية نحو الخارج رغم الضعف الذي أصاب القوات المسلحة العراقية نتيجة الحروب والهزائم والتدمير المستمر لها, وأن الطاغية صدام حسين كان يسعى إلى توطيد سلطته ونقلها إلى ابنه قصي بعد موته, أي أن الدكتاتور كان يرفض جميع الاحتمالات التي قدمها الباحثون لحل المشكلة العراقية بالطرق السلمية والديمقراطية, وإصراره على معالجة الوضع بالطريقة التي اختارها في الحكم, أي الانفراد بالسلطة وفرض الدكتاتورية على الشعب وإنزال أقسى العقوبات بمن يفكر في معارضة النظام. ولنا في ما أصدره من أساليب للتعذيب والانتقام من المعارضين من أتباعه أو من غيرهم خير دليل على ما نقول[viii].
الثانية: لم تكن القوى السياسية العراقية المعارضة بمستوى المسؤولية والقدرة الفعلية على الإطاحة بالنظام, إذ كان النظام قد أنزل بها تدريجاً وواحدة بعد الأخرى ضربات قاسية جداً ودفع بقادتها وغالبية كوادرها إلى الهجرة أو العمل في إقليم كردستان العراق. كما أنها جوبهت بصد حقيقي من غالبية النظم العربية, في ما عدا سوريا, وعدم الاستجابة لشكواها مما يجري في العراق والطلب منها تقديم الدعم لها, إضافة إلى أن التضامن والدعم العالمي لقضية الشعب العراقي كانت بعيدة جداً من أن تساعد الشعب على الخلاص من عهر النظام السياسي.
الثالثة: وكانت الولايات المتحدة تبذل أقصى الجهود لشق وحدة المعارضة العراقية وإيقاف نشاطها النضالي للإطاحة بالنظام وإيجاد صيغ الارتباط بأغلبها منذ أوائل التسعينات وبعد الانتهاء من عقد مؤتمر المعارضة العراقية ببيروت في ربيع عام 1991. إذ كانت منذ تلك الفترة تهيئ الأجواء لحرب ضد النظام لتسقطه بمفردها دون تدخل المعارضة العراقية, لتصبح القوة الفاعلة في العراق وتدفع بالمعارضة لتكون مستجيبة لمطالبها. وكان الحصار الدولي, الذي أصَّرت الولايات المتحدة الأمريكية على فرضه على الشعب العراقي, يستهدف إثارة الشعب ضد النظام وإضعاف قدرات النظام العسكرية, على أن يبقى يمتلك ما يكفي من قوة لكسر شوكة الشعب العراقي ومكافحة القوى المعارضة لنظامه. كانت حسابات الولايات المتحدة الأمريكية واضحة جداً ومعروفة في إطار استراتيجيتها الدولية وفي ظل سياسات العولمة التي تمارسها قوى المحافظين الجدد واللبرالية الجديدة في الإدارة الأمريكية.
     أوجد هذا الواقع إحباطاً كبيراً لدى الغالبية العظمى من أحزاب المعارضة العراقية والشعب العراقي مما سهل مرور نظرية الاعتماد على القوى الأجنبية في إسقاط النظام العراقي. وكان القانون الذي أصدره الكونغرس الأمريكي في عام 1998 المعروف بـ "قانون تحرير العراق" معروفاً بنواياه. رغم أن الرئيس الأمريكي بيل كلنتون لم يستجب لإرادة المحافظين الجدد وصقور اللبرالية الجديدة في تنفيذ مضمون ذلك القانون. ولكن التغيير الذي جرى في رئاسة الولايات المتحدة ومجيء بوش الابن وصقور اللبرالية الجديدة والمحافظين الجدد إلى السلطة ووقوع جريمة الحادي عشر من أيلول/سبتمبر 2001 ومراوغات النظام العراقي قد أعطى الضوء الأخضر للتحرك نحو تنفيذ الاستراتيجية الأمريكية الدولية بكل أبعادها, حيث بدأت بالحرب ضد أفغانستان ومن ثم العراق, ولم تنته هذه المسيرة العسكرية بعد.
     كان العراق وما يزال حلقة في سلسلة طويلة من حلقات الاستراتيجية الأمريكية للقرن الحادي والعشرين. وكان النظام العراقي منذ السبعينات, عبر سياساته الاستبدادية والقمعية والعنصرية ومقابره الجماعية وحروبه الداخلية والخارجية, سُلَّماً آمناً استخدمته الولايات المتحدة للوصول إلى نقطة أبعد في تنفيذ استراتيجيتها العولمية الجديدة. ولم يظهر في العالم العربي ومنطقة الشرق الأوسط منذ نهاية الحرب العالمية الثانية حتى الآن شخصية سياسية قدمت للولايات المتحدة الأمريكية أكبر الخدمات وأكثرها فائدة لمصالحها الاقتصادية ووجودها السياسي والعسكري والهيمنة على المنطقة برمتها مثل شخصية صدام حسين. لقد كان صدام حسين بشخصه وسياساته الغضب الأكثر لؤماً وسوءاً وتدميراً الذي نزل بالعراق على امتداد القرون الأخيرة, ويصبح الحجاج بن يوسف الثقفي شيئاً لا يذكر بالقياس إلى طاغية النصف الثاني من القرن العشرين. وعراق اليوم أمام وضع جديد فهو يواجه الواقع التالي:
* احتلال أجنبي بدلاً من نظام استبدادي دموي هيمن قرابة 35 عاماً على الشعب واستباح الوطن. وإذا كان الشعب يتطلع ويطمح إلى الخلاص من المستبد بأمره, فلم يكن يفكر أن يخضع للاحتلال بأي حال.
* نشاط تخريبي وإرهابي متعدد المصادر والأغراض ومناهض للشعب, وعمليات عسكرية تحرق الأخضر واليابس. وهي ناشئة بشكل خاص من مجموعتين رئيسيتين, هما فلول قوى نظام صدام حسين المنهار, وفلول القاعدة الإرهابية المتطرفة وما يماثلها. 
* مجتمع مصاب بانفصام الشخصية, وكذا غالبية الأفراد, بسبب المعاناة الطويلة السابقة التي تتجاوز عمر النظام الاستبدادي وتغور في عمق التاريخ العراقي.
* أحزاب وقوى سياسية عراقية ما تزال لا تمتلك في أغلبيتها رؤية ديمقراطية ومضامين مدنية حديثة لتطوير المجتمع العراقي باتجاه ديمقراطي برلماني وفيدرالي في جمهورية عراقية موحدة, مع وجود صراعات مستمرة على السلطة وذات اتجاهات مختلفة.
* ويعاني الشعب من عواقب السياسات والحروب السابقة والحصار الدولي اللئيم التي تتجلى في انهيار الوضع الاقتصادي وارتفاع حجم البطالة وتدني الإنتاج المحلي وتراجع شديد في معدلات النمو والدخل القومي وحصة الفرد الواحد منه, إضافة إلى وجود ما يزيد على 60 % من السكان تعيش تحت خط الفقر المحدد دوليا (دخل يومي يتراوح بين اقل من دولار إلى حوالي دولارين يومياًً), إضافة إلى فقدان الخدمات الأساسية للغالبية العظمى من السكان.
* ونحن ندرك أيضاً بأن الاحتلال السياسي والعسكري والاقتصادي للعراق لا يمكنه أن يجلب الحرية والديمقراطية للبلاد ونعرف جميع أهدافه الآنية وذات المدى البعيد. فمنطقة الخليج العربي - الفارسي تمتلك ما يقرب من 64 % من احتياطي النفط الخام في العالم, عدا عن الكميات الهائلة من الغاز الطبيعي, وأن العراق وحده يملك ما يقرب من 11 % من احتياطي النفط في العالم, إضافة إلى وجود كمية أخرى تزيد مرتين ونصف المرة عن الاحتياطي المكتشف في باطن الأرض العراقية غير المكتشفة حتى الآن. وعبر الحربين الأخيرتين في أفغانستان والعراق سيتسنى للولايات المتحدة السيطرة الفعلية على احتياطي النفط تصل نسبته إلى حوالي 75 % من احتياطي النفط في العالم, إذ يقدر احتياطي النفط في جمهوريات آسيا الوسطى حول بحر الخزر) بنسبة قدرها 11 % من احتياطي النفط في العالم. كما أن بقية دول الأوبك تمتلك ما يقرب من 10 % من احتياطي النفط العالمي.
* ومع ذلك, فأن الاحتلال ليس نهاية التاريخ, وأن الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان لا تمنح بل يفترض أن تنتزع بالنضال, والشعب العراقي جدير بهذه المهمة بعد أن تخلص من المستبد بأمره صدام حسين ونظامه الدموي, خاصة وأن العالم يقف إلى جانب استعادة العراق لاستقلاله وسيادته الوطنية وسيطرته على موارده الأولية وتقرير مصيره بنفسه. ويأمل الإنسان في أن يتم إخراج القوات المحتلة بالطرق السلمية.
     يقدم لنا الدكتور عبد الوهاب حميد رشيد مادة غنية في الاستطلاع الذي أجراه حول قضايا الحكم والديمقراطية واتجاهات تطور البلاد, كما أن تحليلاته لذلك الاستطلاع قيمة وتقودنا إلى حقيقة أن الشعب العراقي ورغم عدم تمتعه بالحرية والديمقراطية طيلة قرون طويلة, إلا أنه يعشق العيش في ظل الحرية والديمقراطية وسيادة حقوق الإنسان, كما يرفض الاستبداد بكل أشكاله وقيمه. وكان الكاتب المصري السيد يسين محقاً حين شخص عند تقييمه لكتاب السيد الدكتور رشيد في مقال بعنوان "رؤى مستقبلية للديمقراطية في العراق" بتاريخ 15/5/2003 مسالتين مهمتين في هذا الكتاب, وهما: أهمية الكتاب العلمية من جهة وأهمية الاستطلاع والنتائج التي خرج بها البحث من جهة أخرى. فقد كتب يقول: "ولو راجعنا أدبيات المعارضة العراقية لاكتشفنا ... إن بعض إصداراتها تتسم بممارسة المنهج العلمي في عرض ومناقشة مشكلات العراق... هناك كتب رصينة كتبها أكاديميون عراقيون في المنفى لم يرفعوا أعينهم أبداً عن العراق, وشغلوا أنفسهم بالتفكير المنهجي في كيف يمكن حل المعضلة العراقية. ومن أبرز هذه الكتب  في تقديري الكتاب الذي ألفه الدكتور عبد الوهاب حميد رشيد وعنوانه مستقبل العراق: الفرص الضائعة والخيارات المتاحة  نشرته عام 1997 دار المدى في سوريا... ويلفت النظر حقاً أن الدكتور رشيد اتبع منهجاً علمياً في استطلاع آراء عينة من أفراد المعارضة العراقية في الخارج من خلال تصميم استمارة استبيان تضمنت 135 مقولة ... وبلغ عدد المعارضين ممن أجابوا على الاستمارة 128 شخصاً ينقسمون إلى ثلاث فئات هي الإسلاميون والديمقراطيون والقوميون العرب. إن تحليل نتائج هذا الاستطلاع الفريد يلقي بأضواء قوية على المستقبل العراقي  المرغوب في نظر عينة من الوطنيين العراقيين في المنفى..."[ix].
     لا شك في أن حب الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان والتطلع إلى سيادتها في عراق المستقبل غير كافية, رغم إنها تشير إلى الاتجاه الصحيح, إذ أن يتطلب الأمر أكثر من ذلك. فهذه القيم الإنسانية هي حصيلة نضال البشرية طيلة مئات السنين, وهي تجسيد لحضارة إنسانية جديدة ولكنها غير مقطوعة الجذور عن نضال الشعوب على امتداد التاريخ, علماً بأن شعوب وادي الرافدين والمنطقة بأسرها قد ساهمت جدياً في هذه المسيرة الحضارية للبشرية. وأستند الزميل رشيد على فقرة في كتاب لباحث سويدي جاء فيه: "إن حضارات وادي الرافدين – السومرية والبابلية – ليست أقدم الحضارات في التاريخ فحسب, بل إننا نجد أنفسنا في هذه الحضارات أيضاً ... أساطيرنا وملامحنا وحتى ديننا ... نعم إن الكثير مما تعلمناه ناظرين إليه كإرث للإغريق واليهود يعود إلى هذه الحضارات ..."[x]. هذا صحيح جداً, ولكن انقطاعاً رهيباً وطويلاً وعميقاً حصل في التطور الحضاري للمجتمع والفرد العراقي, وهو الذي يستوجب تجاوزه. فقيم الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان واللاعنف واللا قسوة ليست صبغة أو حقنة, بل هي عملية معقدة وطويلة وعسيرة في آن واحد, وعلى مجتمعنا خوضها بإصرار. وإذا كانت شعوب العالم قد تعلمت الكثير من حضاراتنا السابقة, السومرية والأكدية والآشورية والكلدانية, رغم ما فيها من استبداد وعنف وقسوة, فأن علينا أن نتعلم منها القيم الإيجابية والمثل الطيبة الآن أيضاً وأن نهجر القيم السلبية مثل الاستبداد والقسوة والعنف, كما أن علينا أن نتعلم من الحضارات الإنسانية الأخرى الأكثر تطوراً وتقدماً, تماماً كما تعلموا منا, وليس في ذلك أي عيب أو انتقاص من قدراتنا الفعلية ومن حضارتنا وتراثنا وتقاليدنا. فالإنسان أخ الإنسان في كل مكان وأن معارف البشرية كلها ملك أو وقفٌ للجميع. 
     ويعيش الشعب العراقي في المرحلة الراهنة أمام مجموعة من التحديات التي يفترض أن يعالجها ويحلها لمصلحته ومصلحة جيرانه والمنطقة والسلم في العالم. ومن هنا تأتي أهمية الرؤية الموضوعية والواعية لما يجري اليوم في العراق والكيفية التي يفترض حل الصراعات الدائرة فيه. ولا شك في أن إعادة بناء العراق وعملية التنمية هي جزء أساسي ورئيسي من العملية الديمقراطية التي يناضل الشعب من أجلها. ويبدو لي بأن على المجتمع العراقي أن يدرس الواقع الراهن بكل مستجداته وتحدياته برؤية وذهنية متفتحة غير مغلقة وواعية, لا كما حصل له عبر العقود والقرون المنصرمة. فعالم اليوم لا يعيش الأوضاع التي سادت العالم في أعقاب الحرب العالمية الأولى أو الانقسام الذي حصل في العالم بعد القضاء على الفاشية في أعقاب الحرب العالمية الثانية وبروز معسكرين ونشوب الحرب الباردة, رغم أنه يعيش الانقسام في الوحدة في العالم ويعيش معاناة هذا الانقسام الخطير بين بلدان التقدم الحضاري والتقني والغنى من جهة, وبلدان التخلف الحضاري والتقني والفقر من جهة أخرى. وفي هذا يشير الدكتور عبد الوهاب حميد رشيد إلى أهمية التفاعل والاستفادة من التطور الجاري في العالم وفق ضرورات التطور في العراق, إذ كتب يقول: ".. إن مواجهة الأوضاع الدولية الجديدة وهذا الانفتاح العالمي لا يتم بالانغلاق عليها, بل من خلال فهمها والتعامل معها من منظور ستراتيجي يقوم على [xi]اساس مبدأ الاستفادة من العلاقات الخارجية لصالح التوجه الداخلي".     
     المجتمع العراقي يعيش منذ سنوات عملية العولمة الجديدة مع بقية المجتمعات في العالم, وهي مرحلة متقدمة في العلاقات الاقتصادية الدولية, ولكنها أكثر استغلالاً وعدم تكافؤ في الفرص واتساع في الفجوة والتمايز الطبقي في مختلف هذه المجتمعات وعلى الصعيد الدولي. والعولمة مصطلح جديد, لظاهرة التدويل القديمة, التي أشار إليها ماركس وأنجلز في البيان الشيوعي في عام 1848 حين كتبا ما يلي: "وباستثمار السوق العالمية تصبغ البرجوازية الإنتاج والاستهلاك في كل الأقطار بصبغة كوسموبوليتية. وتنزع من الصناعة أساسها الوطني, بين يأس الرجعيين وقنوطهم, فتنقرض الصناعات الوطنية التقليدية القديمة أو تواصل انقراضها يوما بعد يوم. وتحل محلها صناعات جديدة تصبح إدخالها أو تعميمها مسألة حياتية لكل الأمم المتمدنة, صناعات لم تعد تستعمل المواد الأولية المحلية وحسب, بل أيضاً المواد الأولية الآتية من أبعد مناطق العالم ولا تستهلك منتجاتها في داخل البلاد نفسها فحسب, بل أيضاً في جميع أنحاء المعمورة. وبدلا عن الحاجات القديمة التي كانت تكفيها المنتجات الوطنية, تتولد حاجات جديدة تتطلب لكفايتها منتجات أقصى الأقطار ومختلف المناخات. ومكان الانعزال المحلي والوطني السابق والاكتفاء الذاتي, تقوم بين الأمم صلات شاملة وتصبح الأمم متعلقة بعضها ببعض في كل الميادين. وما يقال عن الإنتاج المادي ينطبق أيضاً على الإنتاج الفكري. فثمار النشاط الفكري عند كل أمة تصبح ملكاً مشتركاً لجميع الأمم. ويصبح من المستحيل أكثر فأكثر على أية أمة أن تظل محصورة في أفقها الضيق مكتفية به. ويتألف من مجموع الآداب القومية والمحلية أدب عالمي واحد"[xii].
     فالعولمة ظاهرة قديمة في بعض جوانبها, ولكنها حديثة كل الحداثة في الكثير الأعم من جوانبها الأخرى والأساسية, بحكم  طابعها وتراكمها المعرفي وسرعة التحولات الجارية في القوى المنتجة فيها والتأثيرات العملاقة الناجمة عنها. بل حتى القديم منها قد تجدد واتخذ صيغا وأشكال ظهور متنوعة. والشيء المركزي الذي حافظ على طبيعته وجوهره هو الاستغلال الرأسمالي الذي تجذَّر وتنوع أكثر فأكثر وتفاقم أيضاً. وتشير كل الدلائل إلى أن العولمة ستتخذ في الفترة القادمة أبعاداً جديدة يعيش المجتمع البشري حاليا بعض معالمها الأساسية في حقول ومجالات عديدة وأساسية وبشكل خاص في العلاقات الاقتصادية المحلية والإقليمية والدولية, وفي العلاقة بين السياسة والاقتصاد والحياة الاجتماعية والثقافية والإعلامية والإيديولوجية والبيئية وقضايا العلوم, ومنها الطبية, وحقوق الإنسان والقضايا العسكرية في العالم. كما يشهد العالم اليوم عملية تلاشي للحدود القومية في ما بين بلدان الاتحاد الأوروبي, بعد أن عاشت الثورة الصناعية الأولى ووحدة مقاطعاتها وقيام حدودها الواضحة, ثم تفجر حروبها الإقليمية بين الدول القومية أو الوطنية في القرن التاسع عشر, إذ أن العالم الذي نعيش فيه يشهد "تكثيفا شديدا للمكان والزمان "بمعنى" تضاؤل المسافات بين أنحاء العالم المختلفة أو التواتر في سرعة الزمن"[xiii]. وهو حصيلة منطقية للمنجزات الهائلة في مجال العلم والتقنيات والمعلومات والاتصالات بحيث أصبحت البلدان التي نعيش فيها في هذا العالم الرحب تبدو على شكل قرى متجاورة, ولكنها متباينة تبايناً شديداً, إذ أن هناك قرى قليلة عامرة ومزدهرة ومرفهة, وبجوارها توجد قرى كثيرة جداً, قرى خربة وجائعة ومهملة دوليا, وبعضها يبدو وكأنه آيل إلى السقوط والزوال عاجلاً أو آجلا.
     والعولمة الرأسمالية, باعتبارها عملية اقتصادية-مالية واجتماعية-سياسية, وعلمية-تقنية, وفكرية-ثقافية, وبيئية, وإعلامية وعسكرية, ما تزال في بداية مرحلة جديدة في الرأسمالية على الصعيد العالمي, فهي تسير في طريق التطور والتنسيق والتكامل كمرحلة متممة ومستقلة ومتقدمة من مراحل التطور الرأسمالي والتدويل الاقتصادي. ولا شك في أن النصف الأول من القرن الحادي والعشرين سيشهد تطورا سريعا في هذا المجال وستبرز معه إلى السطح وأكثر من أي وقت مضى تناقضات العولمة الأساسية المرتبطة بطبيعة وبنية الرأسمالية الدولية في مرحلتها الجديدة, وبالتالي يمكن للبحث العلمي الآفاقي أن يشخص بشكل أولي طبيعة واتجاهات ومضامين وأوجه بروز التناقضات والصراعات المحتملة التي يمكن أن تتفاقم في المجالات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية والإعلامية والعسكرية, وكذلك في مجالات البيئة والعلوم والتقنيات الحديثة على النطاق الدولي وعلى مستويات ومجالات كثيرة أخرى.
     ولا شك في أن التناقض الرئيسي, وبالتالي, الصراع الرئيسي على النطاق الدولي, كان وسيبقى على امتداد عقود قادمة, يدور بين المراكز والأطراف, أي بين الدول الصناعية السبع الكبار من جهة والبلدان النامية المتخلفة من جهة أخرى. وسيشهد هذا التناقض صراعات وتحالفات سياسية واجتماعية محتملة يمكن أن تنشأ باعتبارها أحد أشكال أو أدوات التحري عن حلول عملية لذلك التناقض والصراع على الصعيدين الإقليمي والدولي. ولكن هذا لا يعني غياب التناقضات الأخرى التي سوف تحتدم في المستقبل أيضاً, بفعل التغيرات الجارية والتي ستتنامى مستقبلا في موازين القوى في مراكز القوة والصناعة الثلاثة, إضافة إلى ما يجري اليوم من تحولات في الصين وفي روسيا الاتحادية والهند وبلدان جنوب شرقي آسيا. وإذا كان لبلدان المراكز الصناعية الثلاثة إستراتيجية واضحة المعالم والأهداف وهي تخوض الصراع في إطار العولمة الجارية, فأن بلدان الأطراف (المحيط) كانت وما تزال لا تمتلك إستراتيجيتها الواضحة, وهي ما تزال تتحرى عنها. وفي سعيها هذا توصلت إلى تشكيل ما سمي بمجموعة أل 15 دولة التي تضم حاليا أكثر من عشرين دولة بهدف تحديد إستراتيجيتها على غرار ما تم في سنوات السبعينات عندما شكلت مجموعة أل 77. ومع ذلك فهي لا تمتلك حتى الآن الإستراتيجية التي تؤهلها علي خوض الصراع في إطار العولمة الجارية وتحقيق نتائج مرضية لاقتصادياتها ومجتمعاتها وحياتها القادمة.  
      ولا بد من التمييز بين العولمة كعملية موضوعية وبين سياسات العولمة التي تمارسها الولايات المتحدة بشكل خاص وبقية الدول الصناعية السبع الكبار بشكل عام, التي تريد دول المراكز الصناعية المتقدمة فرضها, تشكل وجهة النظام الجديد للعلاقات الرأسمالية الدولية, فأنها تجسد خصائص مرحلة جديدة لم تتكامل بعد من مراحل تطور الرأسمالية الدولية وترتبط عضويا بالتغيرات الجارية في بنية الرأسماليات المحلية والرأسمالية الدولية, في بنية الإنتاج والتوزيع والتبادل والاستهلاك والعلاقات المالية والخدمات الرأسمالية والعلاقات الاقتصادية الدولية حيث تنشأ وتتطور معها قوانينها الاقتصادية الموضوعية التي تميز بنيتها وحركتها الداخلية واتجاهات فعلها وتأثيرها ومراكز الثقل فيها, كما أنها تجسد في الوقت نفسه تشابكات أفعال جملة من قوانين الرأسمالية العامة والخاصة للمرحلة الإمبريالية ومرحلة العولمة التي لا تنفصل عنها, وبضمنها تلك القوانين العامة والخاصة للرأسمالية ذاتها. وسبب ذلك يكمن في كون المرحلة الجديدة غير منفصلة عن المرحلة التي سبقتها بل هي امتداد طبيعي متطور لها, ومنها على سبيل المثال لا الحصر قانون التطور المتفاوت للرأسمالية على الصعيد المحلي والإقليمي والدولي, وكذلك على المستويات الاقتصادية القطاعية, إضافة إلى القانون الاقتصادي الموضوعي الذي يصاحب العولمة الراهنة ويميزها, قانون العام للتراكم الرأسمالي, الذي يقود إلى تركز وتمركز شديدين جدا للتراكمات الرأسمالية وإلى استقطاب متفاقم للثروة والغنى في قطب, والبؤس وعذاب الاستغلال والبطالة والفقر والجوع والحرمان والجهل والقسوة الخ... في القطب الثاني. وسيثير هذا الاستقطاب صراعات جديدة في ما بين بلدان المركز حول سياسات العولمة التي يفترض ممارستها بين قوى تريد للرأسمالية أن تحقق أقصى ما يمكن من أرباح بعيداً عن فهم مشاكل العالم وما يجره ذلك من صدامات جديدة بين المركز والأطراف, حيث تقف الولايات المتحدة على رأس هذا الاتجاه, وبين وجهة دول الاتحاد الأوروبي المتأثرة بالاشتراكية الديمقراطية التي تريد تخفيف هذا الصراع من خلال السعي إلى التقليل من بعض إشكاليات البلدان النامية عبر تنازلات محدودة لصالح البلدان النامية دون أن يؤثر ذلك على استمرار وجود وتطور وتنامي أرباح الرأسمالية على الصعيد العالمي. ودلائل هذا الصراع تشير إليها المؤتمرات الدولية التي ما انفكت تعقد منذ العقد الأخير من القرن العشرين وما تزال متواصلة والتي تبحث في قضايا البيئة والديون والتجارة الدولية ..الخ.
    وعندما نشير إلى أن العولمة بواقعها الجديد, رغم امتداد عمليات التدويل في تاريخ الرأسمالية والعلاقات الاقتصادية والسياسية والثقافية, ما تزال في بداية الطريق وأنها عولمة غير متكاملة, فأن هذا يعني أن مستلزمات وشروط عملية العولمة التي تشمل بطبيعتها ومكوناتها واتجاهات تطورها العالم كله ما تزال في طريق التكون والتكامل. وهي في ذلك لا تخضع لرغبات الرأسماليين أو السياسيين, بل هي عملية موضوعية. ويلاحظ في الوقت الحاضر أن هناك مغالاة في تفسير العولمة, وكأنها وصلت مراحلها النهائية من حيث النمو والتطور والتكامل. ويراد من ذلك فرض سياسات الدول الرأسمالية المتقدمة, وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية العولمية, على العالم كله من خلال المغالاة بالعولمة. ولكن لا يجوز في الوقت نفسه التقليل من أهمية ما حصل في هذا المجال أو التقليل من أهمية الخطوات التي قطعتها العولمة في العالم, وخاصة في القسم المتطور والغني منه. إذ أن الابتعاد عن الواقع القائم, سواء بالمغالاة أو التقليل من أهمية ذلك يقودان إلى نتائج سلبية بالنسبة لبلدان العالم الثالث على نحو خاص, ومنه العراق, وهو ما يفترض تجنبه.
     وفي سياق الحديث عن العولمة غير المتكاملة أو السائرة على طريق التطور والتكامل, أي التي ما تزال تشكل خطوات متقدمة في عمليات التدويل المتعدد الجوانب لعالمنا الراهن, فأن هذا يعني أن هناك جملة من الأمور التي يفترض أن ننظر إليها بعناية, ومنها:
* عالمنا الواحد المنقسم إلى عالمين فعليين, أحدهما تلفه مظاهر ونتائج الخطوات التي قطعت حتى الآن على طريق العولمة, وآخر ما يزال يعيش في نهاية القرن التاسع عشر أو حتى بداياته في تطوره الاقتصادي والاجتماعي, ولم تصله سوى مظاهر محدودة جداً لهذه العولمة, وهي ليست أساسية, أي أن القسم الأعظم من سكان المعمورة (80 %) لا يشارك بشكل واع وفعال ومثمر في عمليات العولمة, بل يقف على الهامش منها ويستفيد قليلاً حتى الآن من بعض ثمار العولمة, ولكن ما يزال يقدم المزيد من الموارد الأولية والمالية لعمليات العولمة في القسم المتقدم من العالم الذي يعيش فيه 20 % فقط من سكان العالم. والفجوة الأساسية في هذا الصدد تبرز في ثلاث مؤشرات أساسية: 1) طبيعة علاقات الإنتاج السائدة في العالمين ومستوى تطور القوى المنتجة فيهما, 2) المستوى الرفيع للتقنيات المستخدمة في الإنتاج ومستوى الإنتاجية, وكذلك في مستوى المشاركة في الإنتاج والتجارة والدخل على الصعيد العالمي, 3) وفي معدل حصة الفرد الواحد من هذه المؤشرات, ومن ثم تجليات ذلك في عدد كبير من المؤشرات الأساسية الأخرى التي ترتبط بمستوى توزيع وإعادة توزيع الدخل القومي على الصعد المحلية والإقليمية والدولية, ومنها الخدمات التعليمية والثقافية والصحية والنقل والمواصلات والاتصالات …الخ.
* ما تزال الدولة القومية وستبقى لسنوات طويلة تلعب دورها الفعال في حياة بلدانها وفي السياسة الإقليمية والدولية, وأن تقليص دور الدولة في النشاط الاقتصادي لا يعني بأي حال إلغاء دور الدولة الوطنية. وتحويل بعض قراراتها إلى منظمات واتحادات دولية لا يقلل من أهميتها, كما في الاتحاد الأوروبي. ويمكن أن نتلمس ذلك في دور الولايات المتحدة الأمريكية ذاتها في صراعها مع الدول الرأسمالية المتقدمة على التجارة الخارجية وعلى حصتها فيها, أو صراعها على الموارد الأولية وخاصة النفط الخام والمعادن الأخرى في العالم, وما الحروب الأخيرة في منطقتي الشرق الأدنى والأوسط سوى التعبير الصارخ لهذه الوجهة.
* وما تزال الشركات المتعددة الجنسية قائمة على أساس قومي وليست عابرة للقارات كما يفترض أن تكون في إطار العولمة. ففي هذه الشركات المتعددة الجنسية مصالح قومية وصراعات حول تلك المصالح, وهو أمر يحتل أهمية كبيرة في إطار ومستوى تطور العولمة[xiv]. وترتبط بهذا الواقع جملة من المؤشرات الاقتصادية المهمة, بما فيها تراكم رأس المال وحركته وتوزيعه على الصعيد الدولي ونشاط البورصات الدولية والمحلية ودور الرأسمال المضارب, ودور البلدان والقارات والمناطق المختلفة في التجارة الدولية.  
* وما تزال المنظمات الدولية لا تلعب دورها الفعال والمسؤول في العملية الدولية, أي في العولمة والاستفادة من طبيعتها الموضوعية لصالح العالم كله. إذ يلاحظ اليوم الصراع الدولي في داخل الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي لانتزاع دور الأمم المتحدة لصالح دولة واحدة, هي الولايات المتحدة الأمريكية, وبعيداً عن الرؤية الشمولية للعالم ومصالح الإنسان والحرية والديمقراطية والسلام في العالم. وهي إشكالية كبيرة في الوقت الحاضر والمستقبل. ويتجلى هذا الأمر أيضاً في الثقافات الوطنية التي ما تزال وستبقى تلعب دوراً مهماً في حياة الشعوب. والعولمة المتطورة التي تخلق ثقافة عالمية مشتركة, لا يعني بأي حال اختفاء أو القضاء على الثقافات الوطنية للشعوب, بل يفترض أن تنشأ قيم ومعايير ثقافية مشتركة تدريجاً. في حين نلاحظ اليوم محاولات جادة لفرض ثقافة ومعايير وقيم معينة على العالم ما يزال العالم غير مؤهل لقبولها, أو أنها ما تزال لا تعبر عن مستوى تطور القوى المنتجة والوعي الاجتماعي للشعوب, … الخ. 
      لهذا يمكننا الادعاء من جديد بأن عملية العولمة الموضوعية ما تزال في بداية الطريق وهي عملية معقدة وطويلة ومرتبطة بطبيعة علاقات الإنتاج الرأسمالية حيث تسود فيها القوانين الاقتصادية الموضوعية للرأسمالية الخاصة والعامة وكذلك القوانين الموضوعية للتطور الاجتماعي, وهي تختلف من حيث المبدأ عن سياسات العولمة التي تمارس اليوم أو التي يراد ممارستها من جانب الدول الصناعية السبع الكبار على الصعيد العالمي, وخاصة من جانب الولايات المتحدة, سواء تلك التي تتناغم مع طبيعة العولمة أم تتناقض وتتقاطع معها, والتي ستكون لها آثارها المتباينة على العالم كله, وبشكل خاص على التناقضات والصراعات فيه وعلى مستقبل واتجاهات تطور بلدان العالم الثالث.
     إن الفهم السليم لطبيعة العولمة الموضوعية من جهة, وسياسات العولمة التي تمارسها اليوم الولايات المتحدة الأمريكية بشكل خاص, تثير المجتمعات النامية وتدفع بالكثير من القوى إلى رفض العولمة حتى كعملية موضوعية والتصدي لها, في حين أن الرفض يفترض أن يتوجه لسياسات العولمة الأمريكية والأطلسية. ومن هذا المنطلق يفترض أن ننظر إلى ما يجري في العراق, مع إدراك حقيقة أن الصراع ضد سياسات العولمة يفترض فيه أن يرفض النظم الدكتاتورية في البلدان النامية, إذ أنها كانت وما تزال وليدة السياسات التي مارستها الدول الرأسمالية المتطورة, وعلى رأسها الولايات المتحدة, في بلدان العالم الثالث ومنها الدول العربية, إضافة إلى العراق.  
     إن عملية التنمية المعتمدة على النفس التي يدعو إليها الدكتور عبد الوهاب حميد رشيد لا تعني الانغلاق على النفس ولا يفترض أن تعني ذلك, إذ لم يعد هناك أي مجال "لعزلة مجيدة" في العالم. ولكنها تعني بأن القرار الاقتصادي ينبغي له أن يكون مستقلاً أولاً وبالحدود المعقولة, إذ أن التشابك الدولي لا يسمح باستقلال كامل وتام لأي قرار اقتصادي, وأن البلاد يفترض أن تعتمد على مواردها الاقتصادية وقدراتها الفعلية ثانياً, وهذا لا يعني بدوره عدم التفاعل مع العالم في مجال الحصول على التقنيات الضرورية والاستفادة من منجزات الثورة الأنفوميديا الجارية في العالم وعلى  السلع والخدمات المختلفة, بل إن تقدمنا في العراق يشترط ذلك. كتب الدكتور رشيد يقول: "وهذه التنمية ( أي المعتمدة على النفس ك.حبيب) تنطلق من استغلال قدراتها المحلية وإمكانياتها الداخلية في التعامل مع الخارج وليس العكس بالاعتماد على التعامل الخارجي لاستغلال قدراتها... بمعنى آخر التعامل مع الخارج أساساً وفق مستوى التطور الاقتصادي والاجتماعي للبلاد... أي أن التنمية المستقلة ليست منغلقة على نفسها, بل تتعامل مع العالم الخارجي من منطلق تحقيق الاستفادة القصوى من العلاقات الدولية وفق إمكانيات الاقتصاد الوطني ومتطلباته باتجاه تحسين قدرة البلاد على التعامل الخارجي والاقتراب خطوة فخطوة من التعامل الدولي المتكافئ"[xv]. وعلينا أن ننتبه هنا إلى أن التعامل المتكافئ الذي يتحدث عنه الدكتور رشيد غير ممكن الوصول إليه إلا بصورة نسبية وبعيدة المدى حقاً, لكي لا تنشأ لدينا بعض الأوهام في هذا الصدد, بسبب التباين الشديد في مستوى تطور القوى المنتجة وإنتاجية العمل أو تكاليف إنتاج السلع والخدمات ...الخ, والتي سوف لن تعال خلال فترة قصيرة, بل هي مهمة ذات أمد طويل. ومن هنا تنشأ الحاجة أيضاً إلى عمل عربي وإقليمي واسعين لمواجهة العولمة بنشاط وتنسيق عربي وإقليمي واسعين في مختلف جوانب عملية إعادة الإنتاج أو العملية الاقتصادية والاجتماعية.  
إننا بحاجة إلى تنمية واسعة وسريعة أيضاً بسبب الخراب الذي لحق العراق خلال ربع قرن, أي منذ البدء بحرب الخليج الأولى حتى نهاية حرب الخليج الثانية. ونحن بحاجة ماسة إلى سياسة اقتصادية تفهم جيداً كيف يمكن استثمار المورد الأساسي في العراق, النفط الخام, كمادة وكمورد مالي, لصالح عملية التنمية وتحسين مستوى معيشة السكان. وفي هذا نحتاج إلى عملية إصلاح سياسي واقتصادي ومالي وإداري واسعة وعميقة في آن واحد, إضافة إلى محاربة جادة ومستمرة لمظاهر الفساد الوظيفي الشامل الذي تعاني منه البلاد وانهيار الكثير من القيم الإنسانية في المجتمع التي تفاقمت في فترة حكم البعث الدموية في العراق. فما هو السبيل لتحقيق الإصلاح الاقتصادي والاجتماعي ووضع العراق على طريق التنمية؟ وما هي اتجاهات الإصلاح الاقتصادي المنشودة في العراق؟
             تفترض الإجابة عن هذا السؤال الانطلاق من الإشكاليات التي تواجه الاقتصاد والمجتمع حاليا, إذ تقع مسؤولية معالجتها على أكتاف الشعب والقوى السياسية العراقية التي ناصبت النظام السابق العداء وعملت لإسقاطه. أي على كاهل تلك القوى التي تلتزم بمصالح الشعب وحقه الكامل في التمتع بالحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان والعيش الكريم, والساعية إلى إنهاء الاحتلال بصورة سلمية وبالتعاون العربي والدولي وبأسرع وقت ممكن, والتي يمكن بلورتها في النقاط التالية:
* العمل من أجل استتباب الأمن بعد أن أسقط النظام الاستبدادي, والعمل من أجل تمتع الشعب بحرياته وحقوقه الديمقراطية, بما فيها حقه في إقامة المجتمع المدني الدستوري والديمقراطي الفيدرالي والعلماني, إنه الشرط الأساسي والمركزي لكل إصلاح اقتصادي واجتماعي واقعي وعملي يراد تحقيقه في العراق, ويمكنه أن يُخرِج العراق من أزمته المستفحلة ومن دوامة الفوضى والاحتلال. ولا يمكن لمثل هذا الهدف أن يتحقق دون الاتفاق على المهمات وبلورة الآليات المناسبة من جانب القوى السياسية العراقية التي ترى ضرورة ملحة في تعجيل عملية إعادة البناء والتنمية؛
* تشكيل حكومة وطنية مؤقتة وواسعة التمثيل, عبر مجلس وطني مؤقت واسع التمثيل. تأخذ الحكومة والمجلس الوطني على عاتقيهما وضع دستور ديمقراطي يستند إلى أسس المجتمع المدني المتحضر وشرعة حقوق الإنسان ويقر مبدأ الفصل بين الدين والدولة, مع إبداء كامل الاحترام لكل الأديان والاعتراف بحقها في أداء طقوسها بكل حرية وتأمين مستلزمات ذلك, على أن يعرض مثل هذا الدستور على الاستفتاء العام بعد إقراره من الشعب, وإجراء انتخابات عامة حرة وديمقراطية نزيهة تحت إشراف مراقبين من الأمم المتحدة ومنظمات حقوق الإنسان, بحيث تتاح الفرصة الفعلية للناخبين حرية اختيار ممثليهم. ولا شك في أن مثل هذا التوجه يتطلب وعياً عاليا بالمسؤولية من جانب جميع أطراف الحركة الوطنية العراقية واستعدادا لرسم سياساتها وعلاقاتها ومواقفها الجديدة باتجاه الاعتراف المتبادل بالبعض الآخر والتعددية السياسية والممارسة الحضارية للحوار والصراع والتداول الديمقراطي والبرلماني للسلطة السياسية.
* الرؤية الواقعية للقضية الكردية والتعامل الواعي والواقعي معها ومع حقوق وواجبات الأقليات القومية والدينية في العراق لصالح وحدة وتضامن وتفاعل وتقدم الشعب كله. وهذا يعني بالملموس إقامة فيدرالية كردية وأخرى عربية وحكومة مركزية, مع تمتع الأقليات القومية في الفيدراليتين بحقوقهم المشروعة, سواء الثقافية منها أو الإدارية, ومشاركتهم في الحكم على مستوى المركز, ضمن جمهورية عراقية ديمقراطية موحدة.             
* إن رفع الحصار الاقتصادي عن العراق كان الخطوة الأولى على طريق طويل لتوفير مستلزمات الاستيراد والتصدير التي تعطلت خلال السنوات الأخيرة منذ صدور قرار الحصار, ومواجهة عواقب تلك السياسات والحصار على الشعب العراقي. ويتطلب هذا الأمر إلغاء الديون والفوائد المترتبة عليها وكذلك التعويضات المفروضة على العراق, إذ يصعب تحقيق التنمية مع وجود تلك الديون والتعويضات التي تراكمت بفعل حروب النظام وسياساته المعادية لمصالح الشعب.
* توجيه كل طاقات الاقتصاد والمجتمع, القطاع الخاص (المحلي والعربي والدولي) والقطاع المختلط وقطاع الدولة, لصالح عملية إعادة الإعمار وإصلاح الاقتصاد والإدارة وفق برنامج يأخذ بأوليات إعادة الحياة للمشاريع الاقتصادية والبنية التحتية المعطلة.
* العمل من أجل الحصول على دعم عربي ودولي من أجل تحقيق المهمات التي تفرضها عملية إعادة الإعمار والإصلاح الاقتصادي والإداري, أي إيجاد الأرضية الصالحة للتعاون العربي والإقليمي والدولي على أسس من الاحترام والمنفعة المتبادلة وعدم التدخل في الشؤون الداخلية. إن على الولايات المتحدة, باعتبارها دولة محتلة رسمياً أن لا تعطل تعاون العراق مع الدول الأوروبية التي رفضت الحرب, أو تحتكر عملية إعادة الإعمار ومشاريع التنمية الجديدة وبأسعار احتكارية, إذ يفترض أن تأخذ الصيغة الشرعية في طرح مناقصاتها على الصعيد الدولي والتنافس في الحصول على عقود بشأنها وفق أفضل وأقل الأسعار. كما يفترض أن تعهد هذه العملية كلها إلى الحكومة العراقية.
     تتوفر إمكانيات غير قليلة من الناحية الموضوعية لتحقيق التغييرات المنشودة في العراق وتأمين مستلزمات الإصلاح السياسي والاقتصادي والاجتماعي والإداري. إذ أن إمكانيات تغيير الواقع العراقي عملية ليست مستحيلة ولكنها ليست سهلة وتستوجب بداية واقعية وربما تستغرق فترة طويلة نسبيا. ويفترض أن نتمعن ابتداء في عدة مسائل أساسية لا بد من الإشارة إليها لتأمين الرؤية الواقعية لنشاطنا من أجل الإصلاح المنشود والتفكير بسبل معالجتها, وهي:
* الصراعات غير المبدئية المستمرة بين القوى السياسية العراقية وعدم اتفاقها على قواسم مشتركة في ما بينها يمكن أن تواجه سلطة الاحتلال ببرنامج سياسي واقتصادي واجتماعي مشترك.
* العمل على إنهاء الاحتلال الرسمي وإلغاء قرار 1483 لسنة 2003 مع الاحتفاظ بقوات دولية, بضمنها الأمريكية, إلى حين الانتهاء من إنجاز قيام حكومة شرعية في البلاد.  
* رفض التدخلات الإقليمية والدولية في شؤون الأحزاب السياسية العراقية وتأثيراتها السلبية على اتخاذ مواقف موحدة من الوضع الجديد الناشئ في العراق.
* اعتبار الاحتلال حالة مؤقتة ينبغي أن يزول حال استتباب الأمن وحصول الاستقرار السياسي وقيام حكومة وطنية عراقية, إذ أن التفتت الراهن في القوى السياسية العراقية وضعفها العام وضعف علاقاتها بالجماهير الشعبية من جهة, والتسلح الكبير للقوى الصدامية وقوى الإسلام السياسي المتطرفة من جهة أخرى, يمكن أن تقود إلى مشكلات جديدة بما فيها وقوع معارك داخلية تزيد من تعقيدات الوضع ويخسر الشعب العراقي المكسب الكبير والبالغ الأهمية, وأعني به سقوط النظام السياسي الفاشي في العراق.
     لا يمكن لأي إصلاح اقتصادي واجتماعي في العراق في الظروف الراهنة أن يتجاوز أربع حقائق مهمة, وهي:
الاولى: إن البلاد ما تزال مخربة والبنية التحتية مدمرة والأوضاع النفسية للجماهير الواسعة محطمة, والقوى العدوانية لصادم ما تزال تعيث في مناطق من العراق فساداً, وسلطة الاحتلال ما تزال لا تريد فهم الواقع تماماً, وبالتالي, فأننا جميعاً بحاجة ماسة إلى رؤية شمولية وعلمية للعراق ولآفاق تطوره وفق منظورين قريب المدى وبعيد المدى.
الثانية: وأن البلاد تخضع للاحتلال الأمريكي – البريطاني, وأن الدولتين, وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية, لها مشاريعها الخاصة في العراق والتي تتسع لتشمل المنطقة بأسرها والعالم. وأنها تريد ربط العراق بسياساتها العولمية اللبرالية الجديدة وبمصالحها على صعيد المنطقة والعالم, وأنها تتناقض في أبرز أوجهها مع المصالح الوطنية للشعب العراقي. ويصعب على العراق حالياً وفي المستقبل الخلاص من هذا القيد الذي تسبب به نظام الدكتاتورية في العراق حتى قبل سقوطه بسنوات طويلة حين فقد العراق في ظله الاستقلال والسيادة الوطنية وقدرة التحكم بموارده المالية واتجاه تطوره.
الثالثة: وأن أي إصلاح اقتصادي - اجتماعي في العراق لا يمكن إلا أن يأخذ بنظر الاعتبار وجود وتأثير ودور قوى الاحتلال أولاً, وطبيعة السلطة القادمة والبرنامج الذي تتبناه ثانياً. أي هل سيكون البرنامج وطني عراقي مشترك تلتقي عنده جميع أو أغلب القوى السياسية العراقية التي تحوز ثقة الشعب, أم ستكون هناك قوى سياسية منفردة في السلطة ولها برنامجها الخاص, أو ستكون سلطة مؤيدة لوجود وسياسات الولايات المتحدة بالكامل في العراق. إنها وكما يبدو مسالة معقدة ولكن لا بد من خوضها.
الرابعة: وأن أي إصلاح اقتصادي – اجتماعي يفترض أن يأخذ بنظر الاعتبار واقع وجود اتحادية فيدرالية في العراق, وهي اتحادية كردستان العراق, حيث يمكن أن تنشأ اتحادية عربية بجوارها وحكومة مركزية على مستوى العراق كله, حيث يتم في إطار ذلك تأمين التوزيع العقلاني للموارد المالية وخطط التنمية الإقليمية والمركزية في الجانبين الاقتصادي والبشري أو الإنساني وفق معايير يتم الاتفاق عليها بين الحكومة المركزية والحكومتين الاتحاديتين. حتى في ظل الحكم الاتحادي نحن بحاجة إلى نظام إدارة اقتصادية واجتماعية لامركزية بالنسبة إلى المحافظات بما يساعد على تطورها المعجل والمتناسق بين جميع المحافظات.
       ومع الأخذ بنظر الاعتبار هذه الملاحظات يبقى السؤال المشروع يدور حول طبيعة السلطة التي ستقود البلاد خلال فترة الانتقال أولاً وفيما بعد ثانياً. فإذا جاءت حكومة تمثل قوى سياسية عديدة متحالفة أو متعاونة في ما بينها وتحترم وتمارس الديمقراطية والتعددية وحقوق الإنسان وحقوق الشعب الكردي والأقليات القومية والدينية وتحترم وتلتزم بالعلاقات والمواثيق العربية والإقليمية والدولية, فأنها ستكون أمام خيار واحد لا يمكن الزوغان عنه, أي سيصبح لزاما عليها ممارسة نهج ديمقراطي صارم لا في مجال الإصلاح الاقتصادي والاجتماعي الذي يحتاجه العراق بشكل ملح وعاجل فحسب, بل وممارسة سياسة ديمقراطية وعقلانية نحو الدول العربية الشقيقة ودول الجوار وبقية دول العالم أيضا. ولكن, كيف سيكون الموقف من الإصلاح الاقتصادي والاجتماعي الذي يحتاجه العراق في المرحلة القادمة؟
     عند اجتهاد الإجابة عن هذا السؤال ستبرز وجهات نظر عديدة تحمل في طياتها جملة من الاختلافات. وهي مسالة إيجابية وصحية إذا ما وافق الجميع على مبدأ خوض حوار ديمقراطي موضوعي, عقلاني ومسؤول, إذ من خلاله ومشاركة أوساط واسعة من فئات المجتمع يمكن الوصول إلى رؤية مشتركة أكثر قربا من الواقع, إذ يستحيل وضع سياسة تتطابق مع الواقع تمام التطابق. وفي كل الأحوال ليست أمام العراق خيارات كثيرة. وأحد أبرز خيارات الإصلاح الاقتصادي يصلنا من البنك الدولي وصندوق النقد الدولي وتتبناه وتدعو له الدول الرأسمالية المتقدمة, إنه النموذج الموجه لبلدان العالم الثالث, إنه برنامج التثبيت الاقتصادي والتكيف الهيكلي. فما هي جوانب هذا النموذج, وهل هو مناسب لأوضاع العراق الملموسة, وما هو البديل المحتمل في حالة رفضه؟
     يطرح مروجو ودعاة هذا البرنامج بأن من شأن السياسات والإجراءات التي يتضمنها إيصال العراق إلى شاطئ التقدم والرخاء والسلام, ومنها بشكل خاص ما يلي: 
1. تخلي الدولة الكامل عن التدخل في الشؤون الاقتصادية وترك المجال واسعا ومفتوحا للدور القيادي والرئيسي للقطاع الخاص وللمنافسة الحرة[xvi]. إنها اتجاهات اللبرالية الجديدة التي لم تعد تقبل بأية مشاركة للدولة في العملية الاقتصادية وتدعو إلى تصفية تامة لقطاع الدولة تحت شعار "الخصخصة" الكاملة. أي أنها تسعى "إلى تحديد دور الدولة الاقتصادي في تنظيم التوازنات الاقتصادية والمالية الكلية داخلياً ومع الخارج"[xvii], إنها وبهذا المعنى ستترك انسياب الفائض الاقتصادي صوب القطاع الخاص فقط وتمنعه عن الدولة, وبالتالي, تساهم مع عوامل أخرى في تأمين انسياب القسم الأكبر من الدخل القومي لصالح أصحاب رؤوس الأموال[xviii]. وبصدد العراق فأن شعار الخصخصة يمس قطاع النفط الخام أيضاً الذي يسيل له لعاب شركات النفط الاحتكارية وترفضه الأغلبية العظمى من الشعب العراقي ومن العاملين في الشؤون الاقتصادية العراقية.التخلي عن سياسات البرمجة الاقتصادية الحكومية والذي يعني في الوقت نفسه تخلي الدولة عن المشاركة في التأثير النسبي على سياسات التوظيف والتشغيل والأجور والأسعار ودعم الأسعار وترك ذلك كلية لقوانين أو آليات السوق دون تدخل الدولة[xix].
2. ممارسة سياسة الانفتاح الاقتصادي أو الاندماج الكامل والعاجل بالسوق الدولية والتي تعني بدورها الكف عن وضع أية قيود على حركة رؤوس الأموال والتجارة الخارجية وتصدير الأرباح, وكذلك التخلي عن التزاماتها بتنفيذ بنود قوانين العمل المحلية, وإلغاء القيود الجمركية النسبية لحماية الصناعة الوطنية الحديثة التكوين من حدة المنافسة الأجنبية غير المتكافئة, أي الدعوة للتخلي عن وضع وتنفيذ تعريفات جمركية وقيود وضرائب تحد من دخول أو خروج رؤوس الأموال والسلع, بغض النظر عن المصاعب الجدية التي تواجهها السلع المصنعة والمنتجات الزراعية للبلدان النامية في الولوج إلى أسواق الدول المتقدمة.
3. .إجراء تغييرات واسعة في السياسات المالية والنقدية والضريبية, باتجاهات تقليص الإنفاق الحكومي العام وإلغاء الدعم الحكومي الذي يقدم للسلع والخدمات ذات الاستهلاك الشعبي الواسع. هذا من جانب, أما الجانب الثاني منها فيتمثل بمطالبة المؤسسات المالية الدولية حكومات هذه البلدان بزيادة الضرائب غير المباشرة على السلع والخدمات التي من شأنها إرهاق ميزانية الفئات الاجتماعية ذات الدخل المحدود والدخل الواطئ وبقية الكادحين, في حين تدعو إلى إلغاء الضرائب المباشرة أو تقليصها إلى الحد الأدنى على الدخل السنوي للأفراد وعلى أرباح الشركات الرأسمالية, أي إنها تعمل من أجل التخفيف عن أصحاب المشاريع ورؤوس الأموال المحلية والأجنبية بحجة تحقيق نسبة أعلى من الأرباح التي تساعد بدورها على تأمين المزيد من التراكمات المالية لاستثماراتها في المشاريع الإنتاجية والتنمية البشرية التي تسهم بدورها, كما ترى, بزيادة فرص العمل الجديدة, في حين تزيد من أعباء العمال والكسبة والحرفيين وصغار الفلاحين والمستخدمين وصغار الموظفين والفقراء في المجتمع بشكل عام.
4. إصلاح النظام المالي والمصرفي والنقدي وتعويم صرف العملة المحلية وتأمين استقرارها في ضوء العلاقة مع الدولار الأمريكي على نحو خاص.
     إن الأهداف المعلنة لصندوق النقد الدولي والبنك الدولي من وراء هذه السياسات تتلخص في الوصول إلى إعادة التوازن إلى ميزان المدفوعات والميزان التجاري وتقليص الديون الخارجية وتحقيق معدلات استثمار ونمو اقتصادي أكثر ارتفاعا وتقليص البطالة والحد من ظاهرة ارتفاع الأسعار وتدهور أسعار صرف العملات الوطنية وتأمين دور قيادي للقطاع الخاص في عملية البناء الاقتصادي وإلغاء قطاع الدولة ودوره في الاقتصادات الوطنية وتسريع اندماج اقتصاديات هذه البلدان بالاقتصاد الرأسمالي الدولي أو في التقسيم الدولي الرأسمالي للعمل.
إن هذه الاتجاهات في برنامج التثبيت والتكيف الهيكلي لا تتميز بوحدانية الجانب والصرامة الشديدة, التي تستوجب مستلزمات غير متوفرة في البلدان النامية, ومنها العراق, فحسب, بل أنها لا تأخذ بنظر الاعتبار نقاط جوهرية يمكن الإشارة إليها فيما يلي:
n     إنها تسقط العلاقة العضوية القائمة بين السياسة والاقتصاد والمجتمع التي يفترض أن تكون لصالح المجتمع[xx], ولكنها في واقع الأمر تمارس سياسة طبقية صارمة, سياسة تحقق مصالح الدول الرأسمالية المتقدمة ومصالح الفئات الرأسمالية المالكة لوسائل الإنتاج والغنية على التوالي. فهي لا تتجنب الحديث عن الديمقراطية السياسية فحسب, بل تكثر من الحديث عن اللبرالية الاقتصادية وحرية المنافسة, وهي تضعف قدرة الدول النامية على المنافسة والبقاء في السوق الدولية لصالحها, إنها تنسى بكل معنى الكلمة أو تتناسى الديمقراطية وحقوق الإنسان لا في الحياة السياسية فحسب, بل وفي نشاط المؤسسات الاقتصادية والحياة النقابية, إذ ما يهمها يتركز في دمج اقتصاديات وأسواق هذه البلدان بالسوق الدولية وفتح الأبواب أمام نشاط احتكاراتها الدولية. إنها تطالب حكومات هذه البلدان بامتلاك الإرادة السياسية لتنفيذ البرنامج, والذي لا يعني سوى ممارسة سياسة الاستبداد الاقتصادي في تنفيذ سياسات اقتصادية لا تتبناها الغالبية العظمى من السكان ولا تخدم سوى مصلحة أقلية ضئيلة في المجتمع.
n     إنها تنسى الواقع الذي تواجهه هذه البلدان وأهمية وضرورة وجود قطاع حكومي ديناميكي وفعال ومؤهل إداريا وتقنيا ومستقل في أداء جملة من مهمات العملية الاقتصادية, خاصة وأن بعضها يمتلك موارد مالية يمكن توجيهها للأغراض التنموية حيث يعجز أو يمتنع القطاع الخاص عن الولوج فيها, إذ أن الدولة بحاجة إلى جزء من الفائض الاقتصادي لتوجهه إلى تلك المشاريع التي لا تتوجه صوبها رؤوس الأموال الخاصة لأي سبب كان, أو من أجل تأمين الدعم الحكومي النسبي للتخفيف من أعباء شدة استغلال رأس المال؛
n     إنها, وهي تدعو إلى تقليص الإنفاق الحكومي, تركز على تشديد الاختلالات القائمة حاليا التي تعمق من انقسام المجتمع إلى معسكرين, الأغنياء والفقراء, وتجهز على مواقع الفئات الاجتماعية الوسطى وتنهي عمليا وجودها على الخارطة الاجتماعية للسكان, ولكنها تسكت كلية عن, أو حتى تشجع على, شراء الأسلحة التي تحمّل ميزانية هذه البلدان موارد مالية كبيرة وتزيد من مديونيتها الخارجية وتشجعها على حل مشكلاتها الداخلية والإقليمية بالقوة وممارسة العنف والحروب, كما لا ترفض تزويد البلدان التي تقوم بعمليات التسلح المستمرة بالقروض, وتغفل تماما الأضرار الناجمة عن ذلك على العملية الاقتصادية وارتفاع المديونية الخارجية وتدهور الحياة المعيشية والاجتماعية للغالبية العظمى من السكان.
n     إنها تقود إلى توسيع الاختلال الراهن في توزيع الدخل القومي وإلى تعميق الفجوة الدخلية والمعيشية بين الطبقات والفئات الاجتماعية وتؤدي إلى مزيد من البطالة وتخلق بؤر جديدة للتوتر الاجتماعي والصراع الطبقي والسياسي.
n     إنها تهمل كلية البيئة وأهمية ومستلزمات حمايتها وتخليصها من التلوث المتفاقم في إطار عملية التنمية الوطنية.    
n     وهي تهمل التطرق إلى سبل حماية الكفاءات الوطنية المتسربة باستمرار نحو الخارج بسبب الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية في البلدان النامية والخسائر الفادحة التي تتحملها من جراء ذلك.
n     وهي تتجنب الإشارة ولو من بعيد إلى أهمية التعاون الإقليمي للدول المتجاورة لصالح التعاون والتنسيق الاقتصادي, إضافة إلى إهمالها موضوع تطوير البحث العلمي والتقني.
     ومع ذلك, فليس كل ما هو مطروح في برنامج التثبيت الاقتصادي والتكيف الهيكلي خاطئ أو غير مناسب لبلداننا, ولكن فيه الكثير الذي يلحق أضرارا باقتصاديات ومجتمعات هذه البلدان, وخاصة تلك السرعة والشمولية والجذرية التي يراد بها تطبيق سياسات هذا البرنامج. ولهذا لا بد من التفكير بالطريقة التي نراها مناسبة للسير على طريق الإصلاح والتنمية دون أن تهمل الاتجاهات التي يطرحها هذا النموذج الرأسمالي الذي يستند إلى النظرية اللبرالية الجديدة في الفكر البرجوازي الحديث.
      تواجه المجتمع والسلطة الجديدة التي يفترض أن تتشكل في العراق مهمات التخلص من عواقب سياسات النظام الدكتاتوري, وتستوجب على نحو خاص:البدء السريع بعملية إعادة إعمار العراق وإعادة الحياة للمشاريع التي دمرتها الحرب الأخيرة أو عمليات التخريب التي قام بها أعان النظام السابق أو غيرهم من جماعات التخريب, ورفع وتسريع معدلات النمو الاقتصادي, وزيادة حجم الاستثمارات وتأمين توزيعها العقلاني, وتحسين تقنيات الإنتاج وزيادة فرص التشغيل ورفع إنتاجية العمل وتحسين نوعية الإنتاج, وتحسين مستوى دخول الأفراد والعائلات وضمان مستوى مناسب من العدالة الاجتماعية المتطورة, وتعجيل التنمية البشرية وتحسين مستوى الخدمات الاجتماعية وحماية البيئة, وتنشيط وزيادة كفاءة العلاقات الاقتصادية العربية والدولية[xxi].
     ويمكن, أو يفترض, أن تتحقق هذه المهمات على مرحلتين رئيسيتين هما:  
المرحلة الأولى: وتتضمن عمليات إعادة الحياة للمشاريع الاقتصادية والبنية التحتية المخربة في الاقتصاد العراقي, والتي يمكن أن تستغرق فترة غير قصيرة, ولكنها تعتمد بالأساس على الشروط والأدوات الاقتصادية والمالية التي يمكن توفيرها واستخدامها لتعجيل إنجاز مهمات هذه المرحلة, وبالتالي تأمين الحد المناسب من الشروط الضرورية لعملية تنمية أو إصلاح اقتصادي واجتماعي واسع النطاق وعميق في المجتمع. ويمكن أن تستغرق هذه المرحلة خمس سنوات على أقل تقدير.
المرحلة الثانية: وهي لا تبدأ مع نهاية المرحلة الأولى بل يفترض أن تتجاور معها بعد فترة وجيزة من بدء المرحلة الأولى. ويفترض أن يتجه التفكير إلى استخدام جميع الأدوات الاقتصادية والمالية والإدارية والفنية أو التقنية المتوفرة والممكنة, إضافة إلى الجوانب الاجتماعية والسياسية من العملية التنموية والإصلاحية المنشودة. ويبدو لزاما على من يسعى إلى تحقيق التنمية وتأمين الإصلاح الاقتصادي والاجتماعي في العراق الاستناد إلى الاتجاهات التالية:
* اعتبار الاقتصاد العراقي جزءا من اقتصاد المنطقة والعالم, يتأثر بهما أكثر بكثير مما يؤثر فيهما حاليا, ولكنه قادر على الاستفادة منهما والتفاعل معهما. وهي ظاهرة ليست جديدة ولكنها متنامية, إنها جزء من الطبيعة الموضوعية للعولمة[xxii]. ومحاولة عدم الاعتراف بهذا الواقع أو الهروب منه ستنشأ عنها نتائج سلبية وخسائر غير مبررة ومضرة, إذ يفترض أن تتوجه الجهود لمعالجة مسألة أساسية في هذا الصدد, وأعني بها: التحري عن أسلم السبل للاندماج بالسوق الرأسمالي العالمي بما يخفف من سلبيات هذا الاندماج في العولمة على اتجاهات تطور الاقتصاد العراقي, ويزيد من إيجابياته, بسبب طبيعة وسمات ومستوى تطور ومشكلات الاقتصاد العراقي.
* إن المهمة التي تواجه المجتمع العراقي تتلخص في عملية التحول التي لا خيار فيها من بقايا ومخلفات مرحلة العلاقات الإنتاجية شبه الإقطاعية ومن آثارها على الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية, وكذلك العلاقات العشائرية, التي عادت من جديد إلى بنية المجتمع العراقي لتفعل فيه بسبب سياسات وسلوكيات النظام الرجعي المقبور ذاته, إلى مرحلة التطور الرأسمالي. وهذا يعني بأن عملية التحول الرأسمالي ستكون بالنسبة للعراق عملية تقدمية دافعة إلى أمام, إذ إنها ستساعد على الخلاص من العلاقات البالية والمجتمع الفلاحي العشائري أو شبه الإقطاعي المتخلف, رغم أن 76 % من سكان العراق هم من سكان المدن حالياً, حيث لعب النظام الدكتاتوري دورا كبيراً جداً في تكريسها خلال العقدين الأخيرين على نحو خاص. أي أن العلاقات الرأسمالية, ورغم طابعها الاستغلالي ستلعب دورا إيجابيا وفعالاً في تغيير بنية الاقتصاد والمجتمع وتدفع به نحو التقدم.
* ولكن يبقى على راسمي السياسات الاقتصادية أن يأخذوا بنظر الاعتبار واقع المجتمع والمآسي التي مرّ بها وضرورة الأخذ بمفهوم ومضمون "اقتصاد السوق الحر الاجتماعي", أي بمعنى العناية بقدر أكبر بقضايا العدالة الاجتماعية وحياة وظروف العمال وتحديد ساعات العمل وضمان التأثير الإيجابي على علاقة تناسب سليمة بين الأجور وفائض القيمة وتأمين الضمانات الاجتماعية للعمال والمستخدمين …الخ, وعدم السماح للاستغلال الرأسمالي واستبداد اللبرالية الجديدة من تشديد خناقهما على المجتمع, والكادحين منه على نحو خاص.
وهذه الحقيقة تعني دون مواربة بأن المهمة التي تواجه شعبنا في الوقت الحاضر وفي المستقبل المنظور ليست الاشتراكية بل التطور الرأسمالي وفق معايير اجتماعية وديمقراطية جديدة ومناسبة, تأخذ بالاعتبار مفهوما نسبيا متحركا نحو الأفضل للعدالة الاجتماعية, رغم المصاعب الكبيرة التي ستواجهنا على هذا الطريق, خاصة وأن الولايات المتحدة لا تعترف بهذا النهج الاقتصادي الموسوم باقتصاد السوق الحر الاجتماعي.
* والسياسة التي نطرحها تعني بتعبير أدق أخذ الوصفة التي تقدمها المؤسسات المالية والنقدية الدولية, أي البنك الدولي وصندوق النقد الدولي, والدول الرأسمالية المتقدمة بتحفظ كبير وتدقيق وتطويع مناسبين, ولكن دون إهمال, إذ أن اهتمام هاتين المؤسستين ينطلق من مصالح الدول الرأسمالية المتقدمة أولًا وقبل كل شيء, فهذه الدول تهيمن عليهما وتسير سياساتهما وتوجه نشاطاتهما.
* والتوجه نحو اقتصاد السوق الحر الاجتماعي لا يعبر عن رغبة ذاتية بقدر ما هو واقع موضوعي لا يمكن ولا يصح الهروب منه أو تجاوزه. فعبر هذا التوجه يمكن انتهاج سياسة اقتصادية تعتمد الحرية الاقتصادية أو اللبرالية وتقليص دور الدولة إلى الحدود المعقولة في الحياة الاقتصادية لصالح القطاع الخاص ودوره, ولكن هذا لا يعني بأي حال إلغاء دور قطاع الدولة, وبمعنى آخر اعتماد النشاط الاقتصادي للبلاد على تمويل ونشاط القطاع الخاص المحلي والعربي والإقليمي, وكذلك على القطاع المختلط, إضافة إلى مشاركة مناسبة من جانب القطاع الحكومي, خاصة وأن العراق يمتلك موارد أولية تدر عليه موارد مالية غير قليلة يفترض أن توجه للتنمية المباشرة, وليس إلى دعم القطاعات الأخرى فقط. فالإصلاح الاقتصادي المطلوب لا يعني بأي حال الإجهاز التام على قطاع الدولة, بل يعني عقلانية مساهمته في التنمية الوطنية مع تنشيط وتفعيل أكثر للقطاع الخاص, إضافة إلى الانتباه إلى أهمية حماية مصالح الطبقات والفئات الاجتماعية الكادحة مثل العمال والفلاحين والكسبة والحرفيين على نحو خاص وتأمين مستوى معين من العدالة الاجتماعية في توزيع الثروة الوطنية.
* ويفترض في الدولة أن تتعاون مع القطاعات الأخرى في طرح الاتجاهات الاستدلالية للتنمية الاقتصادية والاجتماعية وأن تساهم في النهوض بهذه العملية, دون أن تفرض قيودا على حركة ونشاط القطاع الخاص والمختلط أو تتدخل في القرارات الاقتصادية لمنشآت القطاع الحكومي. وبمعنى آخر على الدولة, وفي ظروف العراق الملموسة, أن تتحمل مسؤولية المشاركة الفعالة في وضع برنامج اقتصادي عملي مقبول من جانب مختلف القطاعات ومرن يتضمن توجهات أساسية منها على سبيل المثال لا الحصر: برمجة التوزيع الجغرافي للاستثمارات والمشاريع؛ برمجة التشغيل والتخلص من البطالة مع الانتباه للتحديث التقني المطلوب والإنتاجية ومشكلة التكاليف؛ تأمين علاقة مناسبة بين التنمية الصناعية والزراعية التي تعاني اليوم من أسوأ أشكال التشوه في العلاقة في ما بينها وفي كل منها ومع بقية الفروع والقطاعات الاقتصادية والاجتماعية, وكذلك الربط العضوي بين سياسة تأمين معدلات نمو اقتصادية مناسبة وحماية البيئة من التلوث, والتأثير المناسب على معدلات النمو السكانية.
* حرية التجارة التي يفترض أن تأخذ بالاعتبار الاتجاهات الدولية الجديدة وما تقرر في دورات أوروغواي وغيرها, مع محاولة تأمين إمكانية التطور للسلع والخدمات المحلية بالشكل الذي لا يتقاطع مع التجارة الحرة ودور القطاع الخاص فيه, سواء في التجارة الخارجية أم الداخلية. ولا شك في أن اعتراضات الدول النامية هي التي أوقفت وإلى فترة لاحقة ما كانت تريد الولايات المتحدة الأمريكية فرضه في مؤتمر منظمة التجارة الدولية الأخير في سياتيل في واشنطن.
·     ويتطلب التوجه إلى مشاركة مناسبة للقطاع الخاص في مجال استثمار الثروات الأولية, بما فيها النفط الخام, لتأمين تسريع معالجة إشكاليات الاقتصاد العراقي الراهنة, دون أن يقود ذلك إلى تقليص دور قطاع الدولة في مجال النفط الخام أو الكبريت مثلا أو الفوسفات.
* ويفترض أن تحتل مهمة التقليص المستمر للأيدي العاملة العاطلة أو توفير فرص عمل جديدة مكانة خاصة في المرحلة الراهنة بسبب البطالة الكبيرة وآثارها السلبية على الأفراد والمجتمع. ويفترض أن يراعى في هذا الصدد تقليص حجم البطالة واختيار المستوى المناسب من التقنيات الحديثة لتأمين تشغيل متزايد تدريجا ورفع إنتاجية العمل وتقليص تكاليف الإنتاج في آن واحد. ولا بد من بذل الجهود لاستعادة الكوادر العلمية والتقنية والمهارات التي غادرت العراق والاستفادة القصوى منها في عملية التنمية والإصلاح الاقتصادي. ومكافحة البطالة يتطلب دعم إنشاء وتطوير المشاريع الإنتاجية والخدمية الصغيرة والمتوسطة التي تستثمر مزيدا من الأيدي العاملة ولا تحتاج إلى رؤوس أموال أو عملة صعبة كبيرة, ولكنها تساهم في معالجة العديد من المشكلات الاقتصادية.
* ويتطلب الإصلاح الاقتصادي إجراء تغيير واسع النطاق في النظام الإداري وأجهزة الإدارة الاقتصادية في البلاد وتحديثها وفق أسس علمية, تلعب فيها الديمقراطية واللامركزية والمسؤولية الفردية والجماعية والمشاركة في النشاط الاقتصادي دوراً مهماً فيها وفي قراراتها وتوجهاتها العامة.   
* وضع وتنفيذ سياسات مالية ونقدية وضريبية جديدة على أن تراعي واقع الفقر السائد والتباين في الدخول ومستويات المعيشة بما يخفف من جشع ورغبة أصحاب رؤوس الأموال في تحقيق أقصى الأرباح على حساب المجتمع, إذ أن سوء توزيع وإعادة توزيع الدخل القومي يقود دون أدنى ريب إلى نتائج سلبية في مجمل العملية الاقتصادية ويخلق بذلك المزيد من الاختلالات الجديدة. إذن نحن أمام مهمة عقلنة وتقنين الإنفاق الحكومي وتأمين مصادر جديدة لإيرادات خزينة الدولة, وخاصة من العملات الصعبة, على أن لا تتم تلك العقلنة على حساب الكادحين من الناس ولصالح أصحاب رؤوس الأموال. كما أننا بحاجة إلى توظيفات رأسمالية لتحسين مستوى التراكم الرأسمالي من خلال العناية بالعلاقة العقلانية بين فائض القيمة أو الربح والأجر في توزيع وإعادة توزيع الدخل القومي.
*وملاحظة أخيرة تستوجب الذكر, بسبب دأب العديد من الباحثين تأكيد الموضوعة التالية وكأنها حقيقة ثابتة لا يرقى إليها الشك أو كأنهم يمتلكون الحقيقة كلها, وهو نفس المرض الذي ابتلت به قبل ذاك الأحزاب الشيوعية والعمالية في الحركة الشيوعية العالمية بشكل عام, إضافة إلى بعض الحركات الفكرية والعقائدية الأخرى, ومنها بعض الحركات الإسلامية الأصولية, ومفادها: "إن فكرة الاشتراكية والعدالة الاجتماعية لم تعد قابلة للتطبيق, إذ أنها سقطت وإلى الأبد". وهذه الموضوعة المتعجلة ناشئة من مواقع فكرية وسياسية مختلفة وتستند إلى أحكام مسبقة قديمة ,إلى سقوط نظم اشتراكية الدولة في الاتحاد السوفييتي وفي أوربا الشرقية أو في غيرها. ولكن من الواقعية بمكان أن نشير إلى أن فشل وانهيار تلك التجارب لا يعني بأي حال انتصار الرأسمالية, بل يعني سقوط سياسات النظم غير الديمقراطية والشمولية التي مارست شكلا من "رأسمالية الدولة الاشتراكية البيروقراطية والأصولية المتيبسة والمشوهة" من جهة, ويعني أيضاً بأن الرأسمالية ما تزال تمتلك مبررات وجودها واستمرارها وقادرة على مواجهة جملة من التناقضات والاختلالات والمصاعب الداخلية التي تواجهها ومعالجتها لفترة طويلة قادمة من جهة ثانية. إن النضال في سبيل العدالة الاجتماعية, حيث تبدو حلما في نظر البعض, يفترض أن تتحول إلى حقيقة واقعة في يوم ما, رغم أنها سوف لن تكون على شاكلة التجارب التي عاشها العالم أو عرف عنها, ولن تكون قريبة المنال كما رغبنا فيها, كما لن تكون شكلا واحدا كما تصورناها, كما لن تكون نقلاً لتجارب الآخرين, وبالتالي, ساهمنا في تشويه فكرتها ومضامينها الأساسية. فالرأسمالية ليست نهاية التاريخ كما يراها فرنسيس فوكوياما, كما أن العالم لا يواجه تحولا نحو صراع الثقافات أو الحضارات بدلا من صراع الطبقات, أو بدلا من صراع الأغنياء والفقراء في عالم تتسع فيه الفجوة الدخلية والمعيشية ويتفاقم الاستقطاب, كما يريد له صاموئيل هنتنكتون أن يكون في كتابه المعروف "صدام الحضارات", بل ستبقى الرأسمالية تعيش تناقضاتها وصراعاتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والعسكرية القديمة والجديدة, وستبقى حبلى بالجديد المتقدم, كما ستكون حبلى بمضامين أكثر عمقا ووعيا للحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية على المدى البعيد بالنسبة لأوساط واسعة من شعوب تلك البلدان. وعلينا أن لا ننسى بأن الديمقراطية في الدول الرأسمالية المتقدمة تعيش أزمة شديدة ويفقد السياسيون فيها مصداقيتهم أمام القسم الأعظم من شعوبهم, وهي حقيقة تعترف بها الغالبية العظمى من القوى الفاعلة في المجتمع. ولكن هذا لا يعني أن علينا أن نفتش عن بديل للديمقراطية البرجوازية, بل علينا تعميقها وتوسيع مضامينها, كما حصل حتى الآن بالنسبة إلى لائحة حقوق الإنسان التي تطورت بصدور الكثير من العهود والمواثيق المكملة لها.
     إن ما يجري اليوم في العراق يتناقض مع النداء الذي ادعاه ووجه بوش الابن إلى الشعب العراقي حين قال بأننا جئنا محررين لا محتلين, وهو يذكر العراقيين بنداء مماثل للجنرال مود ووجهه في عام 1917 إلى المجتمع العرقي في أعقاب احتلال بغداد من جهة, ومع التزاماتها كدولة محتلة للعراق وفق اتفاقية جنيف الدولية في عدم المساس بوجهة تطور البلاد أو إساءة استخدام الثروات فيه. فعلى سبيل المثال لا الحصر لا تمارس الولايات المتحدة وحليفتها بريطانيا في العراق سياسة عقلانية, بل تمارس القوة والعنف في معالجة الوضع أولاً, كما أنها أصدرت جملة من القرارات باسم سلطة الاحتلال تتعارض مع مصالح البلاد, ومنها القرارات الخاصة بالاستثمار الأجنبي في البلاد.
     إن القرارات الصادرة عن الحاكم المدني لسلطة الاحتلال في العراق, السيد باول بريمر, لا تعبر, كما أرى, عن مصالح الشعب العراقي, بل تجسد مطالب ومصالح الدول الصناعية الرأسمالية الكبرى, وبشكل خاص الولايات المتحدة الأمريكية في الوقت الحاضر. إن السماح بتأسيس وشراء المؤسسات الاقتصادية والبنوك العراقية بنسبة 100 % يفسح المجال واسعاً أمام الرأسمال الأجنبي في الوقت الحاضر للتحكم الفعلي بالاقتصاد العراقي ولا يسمح بتنشيط رؤوس الأموال المحلية أو نقل المعارف والخبرات من خلال العمل المشترك. كما أن المشاركة ب 50% في البنوك القائمة وغيرها هي الأخرى غير ملائمة, إذ أنها تسمح بالهيمنة الفعلية على الاقتصاد العراقي, ولا يجوز السماح في الوقت الحاضر عن مشاركة تتعدى نسبة 49% لتبقى للطرف العراقي إمكانية المساومة الإيجابية لصالح الاقتصاد العراقي. ويفترض أن يتم التفاوض حول نسب الضرائب والجمارك التي تفرض على الاستيرادات, إذ أن القبول بها بسبب نقص الإنتاج حالياً سيعيق عملياً تطور الإنتاج المحلي خلال سنة أو سنتين ويكون من الصعب التراجع عن مكاسب لا مبرر لها قدمت للرأسمال الأجنبي. وكذلك موضوع المساواة بين الرأسمال الأجنبي والمحلي في التشريع والتعامل, في حين نجد اللوحة مختلفة في كثير من البلدان الرأسمالية المتقدمة.
     إن من الأخطاء الفادحة التي ارتكبت خلال العقود المنصرمة والتي انتهت فشل الكثير من عمليات التنمية في أغلب البلدان النامية, فيما عدا عدد من النمور الآسيوية المعروفة للجميع وذات المشكلات الكبيرة, سواء تلك التي سارت على النمط السوفييتي أو النمط الرأسمالي المتقدم, إذ أن كلا النموذجين كانا غير ملائمين لهذه البلدان, بسبب الواقع الاقتصادي والاجتماعي وطبيعة علاقات الإنتاج السائدة فيها ومستوى الوعي السياسي للجماهير الواسعة وللحكومات أيضاً. لا شك في أن العلاقات الرأسمالية ما تزال تمتلك مقومات تطورها في البلدان النامية, ومنها العراق, شريطة أن تؤخذ الأوضاع الملموسة والقوانين الاقتصادية الموضوعية بنظر الاعتبار بعيداً عن النظريات العامة واقترباً شديداً من الواقع والإمكانيات والحاجة الفعلية.
     إن المتضرر المباشر من الإجراءات الجديدة ستكون البرجوازية الصناعية والبرجوازية الصغيرة العاملة في الصناعات الصغيرة والإنتاج الحرفي. وستتضرر بنية المجتمع من خلال قلة الاستثمارات المحلية التي ستوجه نحو التنمية الصناعية, وكذلك الزراعية في مقابل توسع نسبي في القطاعات الخدمية وقطاع التجارة والخدمات المصرفية وستبقة نسبة البطالة عالية على مجموع القوى العاملة في البلاد, مع احتمال حصول توسع نسبي في عدد العاملين في حقل إنتاج وتصدير النفط الخام. ويبدو لي ضرورياً البدء بحوار فعال مع اتحاد الصناعات العراقي وغرفة التجارة وعدداً من الاقتصاديين لدراسة الإجراءات الأخيرة ومدى الأضرار التي يمكن أن تلحق بالقطاع الصناعي العراقي في الفترة القادمة إن نفذت الإجراءات التي أصدرها السيد باول بريمر. إن إجراءات الخصخصة في الاقتصاد العراقي عموماً ينبغي أن تخضع للنقاش الجدي والبناء لصالح تجاوز سلبيات الماضي, كما يفترض أن تكون جزء من عملية إصلاح اقتصادي ومالي وإداري ومكافحة جادة للفساد الوظيفي في البلاد.
     وعلينا أن نؤكد بأن المغريات والمحفزات مهما كانت عالية وسخية, فأنها ستكون عاجزة عن جذب المستثمرين الأجانب لتوظيف رؤوس أموالهم في العراق ما دامت الأوضاع الأمنية متردية والاستقرار غائباً, في حين ستكون الصورة معاكسة لو توفر الأمن والاستقرار في البلاد. فخروج المنظمات الدولية وموظفو الأمم المتحدة من العراق بنسبة عالية لن تكون مشجعة بأي حال أصحاب رؤوس الأموال لزيارة العراق والتوظيف فيه. ولكن لا يمكن نفي احتمال زيادة عدد الشركات الأمريكية التي يمكن أن تدخل العراق لتوظيف رؤوس أموالها وإدارة المزيد من أعمال إعادة الإعمار, إذ يمكن أن توفر القوات الأمريكية الحماية الأمنية المباشرة لها.    
     إن الدراسة العلمية القيمة التي يقدمها لنا الزميل الدكتور عبد الوهاب حميد رشيد جديرة بالقراءة المتمعنة, إذ أنها تسمح بالتفكير وطرح الكثير من الأسئلة والمشاركة معه في التحري عن إجابات وحلول ومعالجات للمشكلات الكبيرة التي كان وما يزال يعاني منها العراق, رغم التباين في طبيعة القوى المتصارعة في العراق والمهمات الجديدة الملقاة على عاتق الشعب وقواه السياسية الديمقراطية. كما أنه مسعى جديد في الساحة السياسية العراقية لاستطلاع الرأي العام ومعرفة إرهاصاته وتعميمها لكي تؤخذ بنظر الاعتبار عند تبني سياسات اقتصادية واجتماعية لصالح المجتمع وتطوره وتقدمه. وتبرز أهمية الكتاب من نفاذ الطبعة الأولى وطلب الحصول عليه من جانب قارئات وقراء العربية في العراق وفي المنطقة العربية. لقد برهن الكاتب الصديق, ومعرفتي به وصداقتي معه تمتد إلى أكثر من ثلاثة عقود ومنذ عملنا المشترك في الجامعة المستنصرية ببغداد, على استقلالية عالية في الفكر والممارسة, وعلى منهجية علمية متميزة ودأب شديد على القراءة والبحث والتدقيق والكتابة, وإلى حس وطني وقومي مرهف ووعي بمسؤولية المواطن إزاء الشعب والوطن وعلى تعلق بالحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان, وإلى احترام جم للرأي الآخر, وهو تعبير عن احترام الإنسان لرأيه أيضاً, دون تصور بامتلاك الحقيقة. من هنا وجدت أن كتاب الدكتور عبد الوهاب حميد رشيد إغناء للمكتبة العربية وللفكر الحر والديمقراطي, كما أنه مساهمة جادة في معالجة الوضع في العراق حالياً وللمستقبل.
** الكتاب: مستقبل العراق "الفرص الضائعة والخيارات المتاحة ، دار المدى، دمشق، تحت الطبع. 
 
 
الهوامش
 
 


.1  رشيد, عبد الوهاب حميد د. مستقبل العراق: الفرص الضائعة والخيارات المتاحة. دار المدى. دمشق. 1997. ص 13-14.
2. نفس المصدر السابق. ص 64.  
.3  نفس المصدر السابق. ص 13.
.4  نفس المصدر السابق. ص 142.
.5نفس المصدر السابق. ص 180.
.6نفس المصدر السابق. ص 181.
.7حبيب, كاظم د. المأساة والمهزلة في عراق اليوم. دار الكنوز الأدبية. بيروت. 2000. ص 55/56.
.8حبيب, كاظم د. المأساة والمهزلة في عراق اليوم. دار الكنوز الأدبية. بيروت. 2000. ص 74-96. 
9 . سيد يسين. "رؤى مستقبلية للديمقراطية في العراق"  صفحة إيلافElaph    على شبكة الإنترنيت بتاريخ 15/5/2003.
.10رشيد, عبد الوهاب حميد. مستقبل العاق. مصدر سابق. ص 20.
.11نفس المصدر السابق. ص 149.
       .12نفس المصدر السابق. ص 22.
.13ندوة العولمة والديمقراطية. نظمت في شهر يناير/كانون الثاني 2000 في معهد كوتيه في القاهرة. وهو مقتطف من محاضرة قدمها البروفيسور الألماني إلمار ألتفاتر, أستاذ في جامعة برلين الحرة. ص 2.  
.14هيرست, بول و طومبسون, جراهام. ما العولمة. الاقتصاد العالمي وإمكانات التحكم. ترجمة د. فالح عبد الجبار. عالم المعرفة. 273. الكويت. أيلول/سبتمبر 2001  
.15رشيد, عبد الوهاب حميد د. مستقبل العراق. مصدر سابق. ص 114.
.16ملاحظة: تستوجب الإشارة هنا إلى أن الدول الرأسمالية المتقدمة وخاصة في أوربا قد التزمت منذ نهاية الحرب العالمية الثانية بنموذج كنز للتنمية والذي أعتمد على دور أكبر للدولة ونشاطها الاقتصادي وتأمين مستلزمات تطور القطاع الخاص من جانب الدولة أيضا. إلا أن البرجوازية الكبيرة في الولايات المتحدة الأمريكية وفي أوربا قد تراجعت عن هذه السياسة من خلا تصفيتها التدريجية لقطاع الدولة وتأكيد ضرورة تقليص تدخل الدولة في الشؤون الاقتصادية. وهذا الاتجاه في السياسة الاقتصادية هي الذي يطلق عليه بسياسة اللبرالية الجديدة والذي يتضمن عناصر عديدة أخرى بما فيها الكف عن دعم أسعار السلع والخدمات التي كانت وما تزال تمس مصالح الفئات الكادحة والفقيرة في المجتمع وتؤثر عليها سلبيا, وكذلك تقليص نفقات الدولة على مشروعات الخدمات الاجتماعية …الخ.  
.17السعدي, صبري زاير د. الاقتصاد السياسي للتنمية والاندماج في السوق الرأسمالية العالمية. بحث منشور في مجلة المستقبل العربي. يصدرها مركز دراسات الوحدة العربية. العدد (249) 11/1999. بيروت. ص 31.
.18زكي, رمزي د. اللبرالية المستبدة. سينا للنشر. ط 1. القاهرة. 1993. ص 82-94.
.19زكي, رمزي د. اللبرالية المستبدة.  نفس المصدر السابق. 
.20قارن: السعدي, صبري زاير د. الاقتصادي السياسي…. مصدر سابق. ص 35. 
.21السعدي, صبري زاير د. الاقتصاد السياسي للتنمية… مصدر سابق. ص 8.
.22حبيب, كاظم. العولمة الجديدة. دراسة نشرت في مجلة "الطريق" اللبنانية. العدد 3 /1998. بيروت. ص 59-88.



#كاظم_حبيب (هاشتاغ)       Kadhim_Habib#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الآفاق المحتملة لتحالف الأحزاب والقوى الديمقراطية في عراق ال ...
- مستقبل العراق ... إلى أين؟
- ساعة الحقيقة: القوى القومية العربية بين حقوقهم وحقوق الشعوب ...
- من أجل معالجة حازمة وسليمة لآثار سياسات التطهير العرقي والته ...
- هل أمام الشعب حقاً فرصة مواتية لبداية جديدة في العراق؟
- هل من طريق لتسريع حل ازدواجية السلطة في اتحادية كردستان العر ...
- ما المغزى الحقيقي لاعتقال الدكتاتور صدام حسين؟
- ما هي الأهداف الكامنة وراء قرار حصر منح العقود بالشركات الأم ...
- دراسة أولية مكثفة عن أوضاع الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان ...
- فهد والحركة الوطنية في العراق
- الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية والتمت ...
- تقييم برنامج النشر الصحفي في صفحة الحوار المتمدن
- الهمُّ العراقي وهموم العالم!
- القوميون العراقيون العرب والأوضاع الجديدة في البلاد!
- سماحة آية الله العظمى السيد السيستاني والوضع في العراق!
- موضوعات للتفكير والحوار!
- هل الديمقراطية هي السائدة حقاً في العراق, أم حرية الفوضى؟
- ما المخرج من همجية فلول صدام والقوى الظلامية والسياسات الخاط ...
- نص إجابة الدكتور كاظم حبيب عن استفتاء الزمان بشأن الدستور ال ...
- الاحتلال والصراع على السلطة والمصالح في العراق 3-4 & 4-4


المزيد.....




- عباس: أمريكا هي الدولة الوحيدة القادرة على منع إسرائيل من ال ...
- هل غيرت الضربات الصاروخية الإيرانية الإسرائيلية الشرق الأوسط ...
- كيف وصل مصريون قُصّر غير مصحوبين بذويهم إلى اليونان؟
- جهود دولية حثيثة من أجل هدنة في غزة - هل تصمت المدافع قريبا؟ ...
- وسائل إعلام غربية تكشف لكييف تقارير سيئة
- الرئيس السوري يستعرض مع وزير خارجية البحرين التحضيرات للقمة ...
- -ما تم بذله يفوق الخيال-.. السيسي يوجه رسالة للمصريين بخصوص ...
- روبوتات -الساعي- المقاتلة الروسية تقتحم مواقع العدو وتحيّد 1 ...
- روسيا.. قانون جديد يمنح -روس كوسموس- حق بيع بيانات استشعار ا ...
- اكتشاف صلة بين فيتامين الشمس والاستجابة المناعية للسرطان


المزيد.....

- الكونية والعدالة وسياسة الهوية / زهير الخويلدي
- فصل من كتاب حرية التعبير... / عبدالرزاق دحنون
- الولايات المتحدة كدولة نامية: قراءة في كتاب -عصور الرأسمالية ... / محمود الصباغ
- تقديم وتلخيص كتاب: العالم المعرفي المتوقد / غازي الصوراني
- قراءات في كتب حديثة مثيرة للجدل / كاظم حبيب
- قراءة في كتاب أزمة المناخ لنعوم چومسكي وروبرت پَولِن / محمد الأزرقي
- آليات توجيه الرأي العام / زهير الخويلدي
- قراءة في كتاب إعادة التكوين لجورج چرچ بالإشتراك مع إدوار ريج ... / محمد الأزرقي
- فريديريك لوردون مع ثوماس بيكيتي وكتابه -رأس المال والآيديولو ... / طلال الربيعي
- دستور العراق / محمد سلمان حسن


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - قراءات في عالم الكتب و المطبوعات - كاظم حبيب - بعض إشكاليات المرحلة الجديدة في العراق